كانت الروايات في الماضي تقول إنك اذا صنعت شرَكاً أفضل لاصطياد الفئران فإن العالم لن يعدم وسيلة من أجل الوصول الى بابك، وإذا عثرت على طريقة للتفوق في سوق الأسهم فإن العالم سوف يقوم ببناء خط حديدي عالي السرعة لتلك الغاية أيضاً، وفي حقيقة الأمر فإن المستثمرين وفي سياق سعيهم الى تحقيق هذا الهدف يعولون على الأعمال التي يقوم الأكاديميون بها، ولكن من خلال قيامهم بهذا العمل فإنهم يغيرون الأسواق وطريقة فهم الأكاديميين لها في آن معاً.

ثم إن الفكرة القائلة بأن الأسواق المالية "فعالة" قد توسعت وانتشرت في أوساط الأكاديميين خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وأشارت تلك الفرضية الى أن كل المعلومات ذات الصلة بقيمة الأصول سوف تنعكس بشكل فوري على السعر، وبالتالي لن تشكل تأثيراً كبيراً على مسألة التداول نتيجة توافر تلك المعلومات. وثمة حقيقة مؤكدة وهي أن الشيء الذي سوف يسهم في تحريك السعر سوف يتمثل في معلومات المستقبل (الأخبار) التي يمكن بالتحديد ألا تكون معروفة مسبقاً، وعلى سبيل المثال فإن أسعار الأسهم سوف تتبع ما يعرف باسم "السير العشوائي"، وفي حقيقة الأمر فإن الكتاب الذي صدر تحت عنوان "سير عشوائي في وول ستريت" قد أصبح أكثر الكتب مبيعاً.

Ad

وقد ساعدت هذه الفكرة على تأسيس هيئات رصد المؤشرات، وهي صناديق تقوم ببساطة بشراء كل الأسهم في مؤشرات الأساس مثل "اس آند بي 500"، وبعد أن انطلقت من خلال بداية صغيرة في سبعينيات القرن الماضي بدأت هيئات الرصد هذه بالحصول بصورة ثابتة على حصة في السوق وكان لها تأثيرها أيضاً، واضافة الى ذلك فإنها تهيمن في الوقت الراهن على نسبة تصل الى حوالي 20 في المئة من كل الأصول التي تخضع لادارة.

تحديات مستمرة

ولكن فرضية الأسواق الفعالة تعرضت بصورة متكررة الى تحديات، وعلى سبيل المثال عندما هبط سوق الأسهم في الولايات المتحدة بنسبة وصلت الى 23 في المئة خلال يوم واحد في شهر أكتوبر من عام 1987 كان من الصعب الحصول على سبب وراء تغيير المستثمرين لافتراضاتهم السريعة والجوهرية حول القيمة العادلة للأسهم. وقد نال روبرت شيلر من جامعة "ييل" جائزة نوبل في الاقتصاد بسبب تقديمه لعمل يظهر أن سوق الأسهم كان بشكل اجمالي أكثر تقلباً بقدر كبير وكان ممكنا ألا يصل إلى ذلك لو أن التجار والمتداولين توقعوا بصورة كافية المعلومات الأساسية التي تشير الى التدفقات المالية التي حصل المستثمرون عليها.

سوق صرف العملات الأجنبية

ويكمن مثل آخر حول هذه النظرية في سوق صرف العملات الأجنبية، وعندما ترك سوشي وادواني أحد صناديق التحوط من أجل الانضمام الى لجنة السياسة النقدية في بنك انكلترا في عام 1999 اعترته الدهشة من طريقة تحركات البنك في مجال تنبؤات العملة، وكان البنك يعتمد على نظرية تعرف باسم "تساوي الفائدة غير المغطاة" التي تقول إن فارق معدلات الفائدة بين بلدين يعكس التغير المتوقع في معدلات الفائدة، ويمكن القول على صعيد فعلي إن هذا يعني أن المعدلات المقدمة في سوق العملة هي المؤشر الأفضل لتحركات معدلات الصرف.

وقد فوجئ السيد وادواني بأسلوب العمل هذا نظراً لأنه كان يعلم أن العديد من الناس يستخدمون "تجارة الحمل" وهي طريقة اقتراض المال بعملة متدنية الربح واستثماره في عملة أكثر ربحية، وإذا كان البنك على حق فإن هذه التجارة يجب ألا تكون مربحة، وعقب بعض النقاش والجدال وافق البنك على تسوية بريطانية كلاسيكية تقضي بأن يتوقع تحرك العملة الى منتصف المسافة التي تضمنتها المعدلات المتقدمة.

وتجدر الاشارة الى أن العديد من الأشخاص الذين يعملون في عالم المال لا يزالون يعتقدون بقدرتهم على التفوق على وضع السوق، وبعد كل شيء كان هناك خلل محتمل في صلب نظرية كفاءة السوق، ومن أجل أن تنعكس المعلومات في الأسعار يتعين حدوث تداول، ولكن السؤال هو لماذا يقدم الناس على التداول اذا كانت جهودهم محكومة بعدم تحقيق ربح؟

ثمة فكرة واحدة، إذ يقول أنتي ايلمانن، وهو أكاديمي سابق يعمل في الوقت الراهن لدى "إي كيو آر"، وهي شركة إدارة أموال تقول إن الأسواق تتمتع بكفاءة تامة، وبكلمات أخرى، ليس من أمل بالنسبة إلى المتداول العادي بأن يتفوق على السوق، ولكنك إذا خصصت ما يكفي من رأس المال واستخدمت الحاسوب بفعالية في هذا الجهد فإنك سوف تحقق النجاح المطلوب.

ومن شأن هذه الفكرة أن تساعد على تفسير سبب زيادة المستثمرين الذين يحاولون استغلال الوضع الشاذ والخارج عن المألوف، ويتوافر أحد الأمثلة في هذا الصدد في تأثير الزخم الذي يعني أن الأسهم التي تفوقت في الأداء في السوق في الماضي القريب سوف تستمر في هذا المسار في المستقبل، والمثل الآخر هو ما يعرف باسم "تأثير التقلبات المتدنية" وهو أن الأسهم التي تتحرك بقدر أقل من العنف والاندفاع سوف تطرح عوائد معدلة الخطر بشكل أفضل مما تتوقعه النظرية.

استغلال الخلل

صناديق جديدة في عالم المال تعرف باسم "بيتا الذكية" برزت وشرعت في العمل للاستفادة من هذا الخلل والشذوذ، وتحاول هذه الشريحة ببساطة أن تقلد – بطريقة منهجية – الوسائل التي استخدمت من قبل مديري الصناديق التقليديين الذين يجرون مقابلات مع مديرين تنفيذيين ويستعرضون الميزانيات في محاولة لتحديد الأسهم المتفوقة الأداء.

وقد يكون في حكم المؤكد أن ازدهار ونجاح هذه الصناديق يتوقف على سبب تحقيق الخلل والخروج عن المألوف لربحية في الماضي، ويوجد في هذا الصدد ثلاثة احتمالات، الاحتمال الأول هو الميدان الاحصائي، وبكلمات اخرى اذا أمعنت في المعلومات لفترة كافية فسوف يتبين لك أن الأسهم تتفوق في الأداء خلال أيام الاثنين المعتدلة الطقس من شهر أبريل، ولكن هذا لا يعني بأي حال أنها سوف تستمر في التفوق في الأداء.

ويتمثل الاحتمال الثاني في كون العوائد الزائدة هي تعويض عن الخطر والمجازفة، وفي وسع الشركات الأصغر تحقيق عوائد أعلى ولكن أسهمها أقل سيولة وبالتالي تزداد صعوبة بيعها عندما تدعو الحاجة الى مثل تلك الخطوة، كما أن تلك الشركات مرشحة بقدر أكبر الى الفشل، وقد جادل أكاديميان هما ايوجين فاما وكينيث فرنش في أن معظم حالات الشذوذ يمكن أن تفسر من خلال ثلاثة عوامل هي حجم الشركة وسعرها مقارنة مع أصولها (وهو ما يعرف باسم تأثير القيمة) ومدى تعرضها للتقلبات في السوق.

ويشير الاحتمال الثالث الى أن العوائد تعكس نوعاً من التصرف الذي ينطوي على مراوغة، وقد ترجع العوائد الضخمة الى تباطؤ المستثمرين في ادراك أن حظوظ شركة ما شهدت تحسناً ولم يسارعوا الى التصرف. ولكن السلوك يمكن أن يتغير، ويقول السيد وادواني إن أسعار الأسهم تتحرك وتتبدل في اليوم الذي يتم فيه الاعلان عن الأرباح، وذلك مقارنة مع الأيام التالية وبقدر يفوق ما كانت عليه قبل عشرين سنة، وبكلمات اخرى فإن هذا التغير يظهر أن المستثمرين يستجيبون لذلك التطور بسرعة أكبر، كما أن ما يعرف باسم "تجارة الحمل" غدا أقل ربحية مما كانت عليه في السابق.

ويقول السيد ايلمانن إن من المرجح أن تصبح العوائد الناجمة عن عوامل "بيتا الذكية" أقل قيمة، وذلك نظراً لانتشار تلك الاستراتيجية بقدر أكبر في أوساط المستثمرين.

تغير الأسواق والأكاديميين

وإذا كانت الأسواق قد تغيرت فإن هذا ينسحب أيضاً على الأكاديميين الذين يقومون بدراستها، كما أن العديد من أوراق البحوث العصرية تركز في الوقت الراهن على عناصر الخلل والشذوذ أو تغيرات السلوك التي قد تدفع المستثمرين الى اتخاذ قرارات غير عقلانية بصورة جلية.

وتشير نظرية الأسواق المتكيفة التي وضعها أندرو لو من معهد ماساشوستس للتقنية الى أن الأسواق تتطور بطريقة أشبه بالتحول والنمو. ويسعى التجار ومديرو الصناديق وراء نوعية الاستراتيجيات التي يعتقدون أنها سوف تكون مربحة، وهي النوعية التي تستمر في تحقيق النجاح، أما النوعية التي تفضي الى خسارة المال فتسقط من الحسبان.

التغيرات الدراماتيكية

وتجدر الاشارة هنا الى أن التغيرات يمكن أن تكون دراماتيكية ومؤثرة، وعلى سبيل المثال شهد شهر أغسطس من عام 2007 "هزة كمية" بسبب توقف قصير في عمل استراتيجية الحواسيب، والشكوك في أن أحد مديري المال كان يعمل للتخلص من مراكزه بعد أن تعرض لخسارة في أسواق الرهن العقاري. وأشارت تلك العملية الى خطر الأسلوب الكمي، وبكلمات اخرى اذا كانت الحواسيب تطرح المعلومات ذاتها فإنها قد تدفع الى شراء الأسهم نفسها.

وفي الوقت الراهن، على أي حال، تعتبر أسهم النمو في الولايات المتحدة مكلفة وباهظة الثمن مقارنة مع أسهم القيمة العالمية كما كان الحال إبان فقاعة الدوت كوم (انظر الرسم البياني)، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو ماذا اذا تغير الاتجاه لسبب ما؟ والجواب هو أنه لا توجد صيغة حسابية، مهما كانت درجة وضوحها، تستطيع العثور على مشترين لمراكز تجار عندما يتملك الذعر والقلق كل المعنيين من دون استثناء.