لما كانت الليلة الثانية والأربعون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن البنات لما لبسن ثيابهن، جلسن يتحدثن ويتضاحكن، وحسن ينظر إليهن، وهو غريق في بحر عشقه تائه في وادي فكره. ولم يزل يتأمّل في محاسن كبيرتهن، ويسبح الله الذي جعلها أجمل ما خلق، وكأنها القمر إذا اتسق، ولها فم كأنه خاتم سليمان، وشعر أسود من ليل الصدود على الكئيب الولهان، وغرة كهلال عيد رمضان، وعيناها تحاكيان عيون الغزلان، وأنفها أقني كثير اللمعان، وخداها كأنهما شقائق النعمان، وشفتاها كأنهما مرجان، وأسنانها كأنهما لؤلؤ منظوم في قلائد العقيان، وعنقها كسبيكة فضة فوق قامة كغصن البان!

ولم تزل هي ومن معها في ضحك ولعب، وهو واقف ينظر إليهن ونسي الأكل والشرب، إلى أن قرب العصر، فقالت الصبية لصواحبها: يا بنات الملوك، إن الوقت أمسى علينا، وبلادنا بعيدة، ونحن سئمنا من المقام هنا فهيا نعود إلى محلنا. قامت كل واحدة منهن ولبست ثوب الريش الذي جاءت به، فلما اندرجن في ثيابهن، صرن طيوراً كما كنَّ أولاً، ثم طرن معاً وتلك الصبية وسطهن، فيئس حسن منهن، وأراد أن يقوم من مكانه، فلم يقدر أن يقوم، وصار دمعه يجري على خده، وغرق في هيامه ووجده، وسالت نفسه حسرات، وأنشد هذه الأبيات:

Ad

حُرمت وفاء العهد إن كنت بعدكم

عرفت لذيذ النوم كيف يكونُ

ولا أغمضت عيناي بعد فراقكم

ولا لذ لي بعد الرحيل سكونُ

يخيل لي في النوم أني أراكــــم

فيا ليت أحلام المنام يقيــنُ

وإني لأهوى النوم من غير حاجة

لعل لقاكم في المنام يكـــون

ثم إن حسناً مشى قليلاً وهو لا يهتدي إلى طريق، حتى نزل إلى أسفل القصر، ولم يزل يزحف إلى أن وصل إلى باب مخدعه، فدخل وأغلقه عليه، واضطجع عليلاً لا يأكل ولا يشرب، وهو غريق في بحر أفكاره، يبكي على نفسه، ولم يزل كذلك حتى الصباح، فأخذ يصعد الزفرات، وينشد هذه الأبيات:

سبتني طيور في الهواء ملاح

ومن مات وجداً ما عليه جناح

أسر حديث العشق والدمع فاضحي

وما كل سر للفؤاد يباح

سرى طيف من يحكي بطلعته الضحى

وليس لليلي في الغرام صباح

أنوح عليهم والخليون نُوَّم

وقد لعبتْ بي في الغرامِ رياحُ

سمحت بدمعي، ثم مالي، ومهجتي

وعقلي، وروحي، والسماح رباح

يقولون وصل الغانيات مُحرَّم

وسفك دماء العاشقين مُباح

وما حيلة المضني سوى بذل نفسه

يجود بها في الحب وهو كفاح

أصيح اشتياقاً للحبيب ولوعة

وغاية جهدِ المستهام صياح

 

لما طلعت الشمس، فُتح باب المخدع، ومضى إلى المكان الذي رأى فيه البنات الطيارات عند البحيرة، ولم يزل هناك إلى أن أقبل الليل ولم تحضر الطيور، فيئس من حضورها، وبكى بكاء شديداً حتى غشي عليه ووقع على الأرض مطروحاً. عندما أفاق من غشيته زحف ونزل إلى مخدعه في القصر، وارتمى على فراشه، وقد ضاقت عليه الدنيا بأسرها، وما زال يبكي وينوح على نفسه طول ليله، إلى أن أتى الصباح، وطلعت الشمس على الروابي والبطاح، وبقي هو لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، ولا يقر له قرار من شدة الغرام والهيام، فهو في نهاره حيران، وفي ليله سهران، وكأنه من الوجد الذي هو فيه سكران وما هو بسكران، ثم أنشد قول الشاعر الولهان:

أمخجلة الشمس المنيرة في الضحى

وفاضحة الأغصان من حيث لا تدري

تدري: تسمح الأيام  منك بعودة

وتخمد نيران توقد في صدري؟

ويجمعنا عند اللقاء تعانق

وخدك في خدي، ونحرك في نحري

فمن قال إنَّ الحب فيه حلاوة

ففي الحب أيام أمرّ من الصبرِ

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

عودة الصبايا

لما كانت الليلة الثالثة والأربعون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً الصائغ زاد وجده وهو في القصر لا يجد من يؤانسه، وفيما هو في شدة ولههِ، إذا بغبرة طلعت من البر، فعلم أن أخواته صاحبات القصر عُدن، وما هي إلا ساعة حتى وصلن ودخلن القصر، فنزعن سلاحهن وما كان عليهن من آلات الحرب. ولكن أخته الصغيرة لم تنزع ما عليها من آلة الحرب، بل مضت إلى مقصورته من فورها، فلما وجدته راقداً في مخدعه، وقد نحل جسمه ورق عظمه واصفر لونه، وغابت عيناه في وجهه من قلة الأكل والشرب، وكثرة الحزن والبكاء بسبب تعلقه بالصبية وعشقه لها، اندهشت من ذلك وسألته عن حاله وما هو فيه وأي شيء أصابه، وقالت له: أخبرني يا أخي بحقيقة مرضك لعلي أقدر على كشف ضرك، وأكون فداءك، فبكى بكاء شديداً وأنشد يقول:

محب إذا ما بان عنه حبيبه

فليس له إلا الكآبة والضر

فباطنه سقم وظاهره جوى

وأوله ذكر وآخره فِكر

لما سمعت منه ذلك، تعجَّبت من فصاحته، ومن بلاغة قوله وحسن لفظه، ومجاوبته لها بالشعر، فقالت له: يا أخي متى وقعت في هذا الأمر الذي أنت فيه، وجعلك تتكلم بالأشعار وترسل الدموع الغزار؟ بحق حرمة الأخوة التي بيننا أخبرني بحالك ولا تخف عني أمراً مما جرى لك في غيابنا، فقد ضاق صدري وتكدر عيشي بسببك.

فقال لها: أخاف يا أختي إذا أخبرتك ألا تساعديني على مطلوبي، بل تتركيني أموت كمداً. فأجابت: لا والله يا أخي، ما أتخلى عنك ولو راحت روحي في سبيلك. فحدثها بما جرى له وما عاينه حين فتح الباب، وأخبرها أن سبب الضرر والبلاء عشق الصبية التي رآها، كما أن له عشرة أيام لم يذق الطعام ولا المنام، وبكى بكاء شديداً، وأنشد هذين البيتين:

ردوا الفؤاد كما عهدت إلى الحشا

والمقلتين إلى الكرى ثم اهجروا

أزعمتم أن الليالي غيرت

عهد الهوى، لا كان من يتغيَّر

بكت أخته لبكائه، ورقَّت لحاله ورحمت غربته، ثم قالت له: يا أخي طب نفساً وقر عيناً، فأنا أخاطر بنفسي معك وأبذل روحي في رضاك، وأدبر لك حيلة ولو كان فيها ذهاب نفسي ونفائسي، حتى أقضي غرضك إن شاء الله تعالى، ولكن أوصيك يا أخي بكتمان السر عن أخواتي، فلا تظهر حالك لواحدة منهن لئلا تروح روحي وروحك، وإن سألنك عن فتح الباب فقل لهن: ما فتحته أبداً ولكن أنا مشغول القلب لأجل غيابكن عني وقعودي في القصر وحدي. فقال لها: هذا هو الصواب. ثم قبل رأسها، وطاب خاطره وانشرح صدره، لأنه كان يخشى أن تلومه على فتح الباب، فلما سمع كلامها ردت إليه روحه بعدما كان مشرفاً على الهلاك، ثم طلب منها شيئاً يأكله، فخرجت من عنده ودخلت على أخواتها وهي حزينة باكية وأخبرتهن بأن خاطرها مشغول لمرض أخيها حسن منذ عشرة أيام.

ابنة ملك الجان

لما سألنها عن سبب مرضه قالت لهن: سببه غيابنا عنه حيث أوحشناه، فإن هذه الأيام التي غبناها عنه كانت عليه أطول من ألف عام، وهو معذور لأنه غريب وحيد، ونحن تركناه وليس عنده من يؤانسه ولا يطيب خاطره، وربما تذكر أهله وأمه وكيف أنها تبكي عليه آناء الليل وأطراف النهار.

لما سمعت أخواتها كلامها، بكين من شدة التأسف عليه وقلن لها: والله إنه معذور، ثم دخلن على حسن فسلمن عليه، ورأينه قد تغيرت محاسنه واصفر لونه ونحل جسمه، فبكين شفقة عليه، وقعدن عنده وآنسنَه وطيبن قلبه بالحديث، وحكين له ما رأين من عجائب وغرائب في سفرهن، ثم أقمن مدة شهر كامل وهن يؤانسنه ويلاطفنه، وهو في كل يوم يزداد مرضاً على مرض، وكلما رأينه على هذه الحالة بكين بكاء شديداً، وأكثرهن بكاء أخته الصغيرة.

وبعد شهر، عزمن على الركوب للصيد والقنص، وسألن أختهن الصغيرة أن تركب معهن، فقالت لهن: والله يا أخواتي ما أقدر أن أخرج معكن وأخي على هذه الحالة، ولا بد من أن أبقى معه حتى يزول عنه ما هو فيه من المرض. لما سمعن كلامها شكرنها وقلن لها: كل ما تفعلينه مع هذا الغريب تؤجرين عليه. ثم تركنها عنده في القصر وركبن، وأخذن معهن زاد 20 يوماً.

لما كانت الليلة الرابعة والأربعون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن البنات لما ذهبنَ إلى الصيد والقنص وتركن أختهن الصغيرة عند حسن في القصر، فإنهن ما كدن يقطعن مسافة بعيدة حتى قالت أختهن لحسن: يا أخي قم أرني هذا الموضع الذي رأيت فيه معشوقتك. فرح بقولها وأيقن ببلوغ مقصوده، ثم أراد أن يقوم معها ويريها المكان، لكنه لم يقدر على المشي، فحملته وصعدت به إلى سطح القصر، وهناك أراها الموضع الذي رأى فيه صاحبته عند بركة الماء، فقالت له: صفها لي يا أخي وكيف جاءت.

وصف لها ما رأى، وأطنب في وصف البنت التي تعلق بها، فلما سمعت وصفها عرفتها، واصفر وجهها وتغيَّر حالها، فقال لها: لماذا اصفر وجهك وتغيرت حالتك؟ فقالت له: اعلم أن هذه الصبية ابنة ملك من ملوك الجان العظام الشأن، قد ملك أنساً وجاناً، وسَحَرة وكهاناً، وأرهاطاً وأعواناً، وأقاليم كثيرة وأموالاً، وأبونا نائب من جملة نوابه، فلا يقدر عليه أحد من كثرة عساكره، واتساع مملكته وكثرة ماله، وقد جعل لبناته اللواتي رأيتهن مسيرة سنة كاملة طولاً وعرضاً، وعلى حدود مملكته نهرٌ عظيمٌ محيط بها، فلا يقدر أحد من الإنس ولا من الجان أن يصل إليهن.

واعلم أن عنده من البنات الضاربات بالسيوف الطاعنات بالرماح أكثر من خمسة وعشرين ألفاً، كل واحدة منهن إذا ركبت جوادها ولبست آلة حربها تعادل ألف فارس من الشجعان، وله سبع بنات هن اللائي رأيتهن، ولهن من الشجاعة والفروسية ما لهؤلاء وأزيد، وقد ولى ابنته الكبرى التي عشقتها نصف مملكته، وعندها من الشجاعة والفروسية والخداع والمكر والسحر ما تغلب به جميع الممالك.

أما البنات اللاتي كن معها فهن ربات دولتها، والجلود الريش التي يطرن بها من صنع سحرة الجان، فإذا أردتَ أن ترى هذه الصبية فاقعد هنا وانتظرها، لأنهن يحضرن على رأس كل شهر، إلى هذا المكان، فإذا حضرن فإياك أن تظهر وإلا ضاعت أرواحنا جميعاً، فافهم ما قلته لك واحفظه في ذهنك، واقعد في مكان قريب منهن، بحيث تراهن ولا يرينك، فإذا خلعن ثيابهن، فتسلل إلى موضع الثوب الريش الخاص بمعشوقتك، واهرب به إلى قصرنا، ولا تأخذ شيئاً غيره، فإذا مَلكتَه فقد مَلكتَها.

وإياكَ أن يخدعك وعدُها بإعطاء من يرد ثوبها كل ما يريد، فإنك إنْ أعطيتها إياه قتلتك، وخربت ما لنا من القصور، وقتلت أبانا، إما إذا أبقيت ثوبها معك، فإن من معها يطرن ويتركنها وحدها على شاطئ البركة، وحينئذ تتوجه إليها وتمسكها من شعرها فتملكها وتصير في حوزتك، وما دام ثوبها عندك فهي في قبضتك وأسرِك، لأنها لا تقدر أن تطير إلى بلادها إلا به، ولهذا يجب بعد أخذها إلى مقصورتك ألا تبين لها أنك أخذتَ الثوب!

لما سمع حسن كلام أخته، اطمأن قلبه وسكن روعه، وزال ما به من الألم، ثم انتصب قائما وقبل رأسها، ونزل من فوق القصر معها، وقضى ليلته في سلام.

سرقة الثوب
.

لما اقترب أول الشهر الجديد، أخذ حسن يستعد لأسر معشوقته، وأعد لنفسه مخبأ بالقرب من البركة، وصار يجلس فيه من الصباح إلى العشاء، بينما أخته تذهب إليه بالأكل والشرب والثياب، ولم يزل على هذه الحالة إلى أول الشهر.

وبينما هو يترقبهن، إذا بهن أقبلن طائرات في الجو كما رآهن في المرة الماضية، فاختفى في مكان يراهن فيه ولا يرينه، وانتظر حتى خلعن ثيابهن ونزلن في الماء، ثم نهض وذهب إلى موضع ثيابهن، وكان ثوب التي يحبها في مكان قريب منه، فأخذه ورجع به من غير أن تراه واحدة منهن، فلما فرغن من الاستحمام خرجن من الماء، وأخذت كل واحدة منهن تلبس ثوبها الريش. أما محبوبته فلم تجد ثوبها، وأخذت تصرخ وتبكي حتى أقبلت عليها وصيفاتها وسألنها عما جرى، فأخبرتهن بأن ثوبها الريش فُقد، فبكين وصرخن ولطمن وجوههن، ولم يزلن كذلك حتى أقبل الليل، فتركنها وحدها ورجعن طائرات إلى مملكتهن.

لما كانت الليلة الخامسة والأربعون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً لما رأى حبيبته صارت وحدها، وأراد التوجه إليها، سمعها تقول: يا من أخذت ثوبي، لقد أخذت قلبي معه، فأرجع ثوبي يزد قلبي تعلقاً بك. لما سمع حسن هذا الكلام منها، كاد عقله أن يطير، وزادت محبته لها، ولم يطق أن يصبر، فقام من مكانه وأخذ يجري حتى وصل إليها وأمسكها ثم جذبها، إليه وحملها إلى مقصورته، حيث رمى عليها عباءته، ثم تركها تبكي وتعض على يدها، وأغلق عليها الباب، ومضى إلى أخته فأعلمها بكل ما حدث، وقال لها: إنها الآن تبكي وتعض على يدها في مقصورتي.

بعد ذلك قامت أخته وتوجهت معه إلى المقصورة حيث رأت الفتاة تبكي هناك، فقبلت الأرض بين يديها، وسلمت عليها، فقالت لها الصبية: أهكذا تفعل الناس عندكم هذه الفعال الرديئة مع بنات الملوك؟ أنت تعرفين أن أبي ملك عظيم، وأن ملوك الجان تفزع منه وتخاف من سطوته، وعنده من السحرة والحكماء والكهان والشياطين والمردة، من لا طاقة لأحد بهم، وتحت يده خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، فكيف يصح لكِ أن تؤوي رجال الإنس عندكن وتطلعينهم على أحوالنا وأحوالكن؟

فقالت لها أخت حسن: يا ابنة الملك إن هذا الإنسي ليس قصده أمراً قبيحاً، وإنما هو يحبك، وما خلقت النساء إلا للرجال، ولولا أنه يحبك ما مرض لأجلك وكادت روحه أن تزهق في هواك، وحكت لها ما أخبرها به حسن من عشقه لها. فلما سمعت كلامها، يئست من الخلاص، ثم قامت أخت حسن وخرجت من عندها، وأحضرت لها فستاناً فاخراً، فألبستها إياه، كما أحضرت لها طعاماً وشرابا وجلست تؤكلها وتطيب قلبها، ولم تزل تلاطفها حتى الفجر وتقول لها: ارحمي من نظرك نظرة فأصبح قتيلاً في هواك. إلى أن كفت عن بكائها وقالت لها: أشكرك يا ابنة الملك على مواساتك لي. وقد حكم الله بغربتي وانقطاعي عن بلدي وأهلي وأخواتي... فصبراً جميلاً على ما قضاه ربي.

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد