قراءة شعرية
الريفُ الإنكليزي مدهش. سرعان ما أغفل ذلك حين أصحبُ الأيامَ والأسابيعَ والشهورَ في لندن، ولكني ما أن أتركها إلى مدينة أخرى حتى يتدفّقَ أمامك بذراعين مُشرعتين، بكلِّ ما يملكُ من هضابٍ، قِلاعٍ، ألوانٍ، ومجاري أنهار، وكأنه يحتفي بزيارتك. وحدها الخضرةُ تتلاحق طبقاتٍ لا يُحيط بها حد. ولذلك من المستحيل على الرسام أن ينقلَ مشهداً طبيعياً للريف من المخيلة أو الذاكرة. حدث هذا الاحتفاء الريفي قبل أيام، حين دُعيت من قِبل قسم أدب يُعنى بالترجمة في East Anglia University في مدينة Norwich. أقلتني سيارة صديقين أحدهما الشاعر "أنتوني هاول"، الذي أسهم في ترجمة قصائدي في 3 مجاميع شعرية (سبق أن عرضتُ له وترجمتُ في عمودي هذا). الطريقُ أخذ منا قرابةَ ساعتين ونصف الساعة، استرحنا في مُنتصفه بقرية تشبه في شوارعها وبيوتها لُعب أطفالٍ بالغة الأناقة. الجامعة تتوزع بناياتٍ فوق هضاب خارج المدينة، وعلى عشبِ الهضاب تنتشر كأزهارٍ بريةٍ ملونةٍ هيئات الطلبة، فتياناً وفتياتٍ، مستلقية تحت شمسٍ تمتص منهم رطوبة شتاء فائت. كلُّ شيء كان يُهيئ أفقاً لقراءة الشعر. في قاعةٍ داخل المبنى، خاصة بالندوات، جلستُ في مواجهة حشدٍ من الطلبة، معنيٍّ بالأدب والشعر. أربعون دقيقة ستكون لقراءة الشعر، بالنص الإنكليزي المترجم يقرأه "أنتوني"، ثم بالنص العربي أقرأه أنا، وخمسون دقيقة للمناقشة. وإلى الجوار مائدةٌ عامرةٌ بزجاجات النبيذ والمعجنات الخفيفة. من قراءة النص الإنكليزي قطفوا المعاني والصور، وكأنها منحوتةُ "بجْماليون" التي تتمتع بكل فضائل الصورة المجسدة إلا الحياة، ثم بَعثت بها قراءةُ النص العربي الروحَ، فاتفضت القصيدة حيةً، عبر صوتِ الحرفِ، الكلمةِ، الجملة، وهو ينعم بالحركة واللحن، تُمليها عليه حركاتُ الإعراب. كانت استجابتُهم لقراءةِ النصِّ الانكليزي ذهنيةً، لأنها انصرفت للدلالة، في حين كانت الاستجابةُ روحيةً لقراءة النص العربي، لانصرافها للموسيقى. وفي فقرة المناقشة أوضحت لهم سرَّ الحياة في العربية الكامن في حركات الإعراب، وفي موسيقى الشعر، التي لا تتولد من الوزن وحده؛ لأن الوزنَ وحده ضابطُ إيقاع رياضي، بل من حرفِ، وكلمةِ، وجملةِ القصيدة، صوتاً ودلالة، التي تنتسب لهذا الشاعر بعينه، لا لشاعر سواه. موسيقى الشعر تحتاج إلى إيقاع ولحن، وهذان كامنان في أجنّةِ المعاني التي لم تُصبح كلماتٍ بعد، في داخل كيان الشاعر.
من هنا تبدو ترجمة الشعر مهمة مستحيلة أو تكاد، مع كلِّ ضرورتها التي لا سبيل إلى إغفالها. نجاحُ ترجمةِ النص الشعري يعتمد موهبتين: أمانة المترجم وقدرته على إعادة الصياغة الشعرية في لغته، ويصلحُ لها الشاعر الجيد وحده، وقدرةُ القارئ على سبر غور هذه الصياغة لبلوغ الأصل. ولكن هناك ما يستعصي على الفهم دون إضافةِ هامش. في قراءة قصيدة Central Line، وبعد تجوال قطار الأندرغراوند بالمتحدث، يرد هذا المشهد:وإذا ما انتصفَ الليل، واسترختْ قدّامي فوق المقعدسنواتُ العزلةِ والتيه،أخرجتُ جوازَ السفروقضينا الليلَ نحدّق فيه. فجوازُ السفر لدى الغربيِّ عامةً لا يعني أكثر من وثيقة، يحتفظ به كما يحتفظ بإجازة سوق. ولكنه لدى العراقي، وربما العربي عامة، حتى لو كان جوازه غربياً، يتّسعُ لمعانٍ تكاد تكون ميتافيزيقية. فهو مصدرُ إحساسٍ بنفْيه، وبانعدامِ الثقةِ بوجوده، وبخوفِه الذي ينبض في دمه، وبملاذِه الذي يثيرُ الشفقة، وببعثِ الذاكرة الملتاثة... إلخ. هذه المعاني تنبعث في كل لحظةِ عبوره لحدود؛ أية حدود. ولذلك تبدو الكلمةُ في القصيدة لا حياة فيها دون هامش إضافي. في دعوةِ العشاء تواصلَ الحوار، ولكن مع عددٍ من الأساتذة هذه المرة. كان الحديث عن الشعر والموسيقى. قلتُ لهم إن أمي لم تكن تُحسن القراءة والكتابة، وبالتأكيد لم تكن تعزف على آلة البيانو، شأن بعض أمهاتهم. ولذلك أبدو لهم حذراً من الانتساب لما بعد حداثتهم. إلا أني منذ صباي كنتُ في حلمِ اليقظةِ أعزف على آلة بيانو. وإلى اليوم، حين يحلو لي أن أكتبَ قصيدتي على الكمبيوتر، وأتأمل جمالَ الحرف العربي يرتسم بحركته الإعرابية على الشاشة، أشعر أن أصابعي تتحرك مسحورةً على مفاتيح بيانو، سوداء بيضاء، مصحوبة بإيقاعٍ ولحن.