لما كانت الليلة الخامسة والأربعون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد، أن أخت حسن أخلت لها مقصورة في القصر، لم يكن ثمة أحسن منها، ولم تزل تسليها وتطيب خاطرها حتى انشرح صدرها، وزال ما عندها من الكدر لفراق الأهل والأوطان. بعد ذلك، توجهت أخت حسن إليه وقالت له: ادخل عليها في مقصورتها وقبِّل يديها ورجليها. ففعل ذلك، ثم قبَّل ما بين عينيها وقال لها: يا سيدة الملاح وحياة الأرواح ونزهة الناظرين، كوني مطمئنة القلب، فأنا ما أخذتك ألا لأكون عبدك إلى يوم القيامة، وأختي هذه جاريتك، وأنا يا سيدتي ما قصدي إلا أن أتزوجك بسنة الله ورسوله، وأسافر إلى بلادي لأعيش أنا وأنت في مدينة بغداد، وأشتري لك الجواري والعبيد، ولي والدة من خيار النساء تكون في خدمتك، ولا توجد بلاد أحسن من بلادنا، وكل ما فيها أحسن مما في غيرها من سائر البلاد، وأهلها وناسها ناس طيبون. وكان يخاطبها ويؤانسها، لكنها لا تخاطبه بحرف واحد.

بينما هما كذلك إذ سمع ضجّة خارج القصر، فخرج ليرى ما هناك، وكانت البنات شقيقات أخته حضرن من الصيد والقنص، ففرح بهن وتلقاهن وحياهن. هنأنه بالسلامة والعافية، ثم نزلن عن خيولهن ودخلن إلى القصر، وذهبت كل واحدة إلى مقصورتها حيث نزعت ما كان عليها من الثياب ولبست غيرها، وجاء العبيد والخدم بعد ذلك ببعض الغزلان والوعول التي اصطدنها، فذبحها حسن وجلس معهن يبادلهن الأحاديث حتى حان موعد الغداء، وعزمن عليه أن يأكل معهن، لكنه بكى وقام فتقدم إلى كبراهن وقبَّل رأسها، ثم أخذ يقبل رؤوس أخواتها، فقلن له: أكثرت التزلف إلينا يا أخانا، وعجبنا من فرط ودك إلينا وأنت آدمي، ونحن من الجن.

Ad

دمعت عيناه وبكى بكاء شديداً ولم يجب، فقلن له: ما يبكيك فقد كدرت عيشنا ببكائك في هذا اليوم؟ هل اشتقت إلى والدتك وإلى بلدك؟ إن كان الأمر كذلك فنحن نرجعك إلى وطنك وأحبابك.

فقال لهن: والله ما مرادي فراقكن. وخجل أن يذكر شيئاً عن عشقه، خيفة أن ينكرن ذلك عليه، وحينئذ قالت أخته لهن: إنه اصطاد جنية طيارة، ويريد منكن إعانته على تأهيلها، فالتفتن إليه وقلن له: نحن كلنا بين حالك، فقال لأخته: قصي خبري عليهن، فإني أستحي منهن.

عقد القران

لما كانت الليلة السادسة والأربعون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن أخت حسن قالت لشقيقاتها: يا أخواتي إننا لما سافرنا وتركنا هذا المسكين وحده، ضاق عليه القصر وخاف أن يدخل عليه أحد، وأنتن تعرفن أن عقول بني آدم خفيفة، ففتح الباب الموصل إلى سطح القصر وطلع إلى هناك وأشرف على الوادي، وصار يطل على جهة الباب، خوفاً من أن يقصد أحد القصر. بينما هو جالس هناك إذا بالعشرة طيور أقبلت عليه قاصدة القصر، ولم تزل سائرة حتى جلست على البحيرة، التي فوقها المنظرة، فنظر إلى الأحسن بينها وهي تنقر رفيقاتها وما بينها واحدة تقدر أن تمد يدها إليها...

ثم جعلت مخالبها في أطواقها، وخرجت من الثياب الريش صبايا كل واحدة منهن صبية كالبدر ليلة تمامه، ثم نزلن إلى الماء وصرن يلعبن، والصبية الكبيرة تغطيهن وليس منهن واحدة تقدر أن تمد يدها إليها، وهي أحسنهن وجهاً، وأعدلهن قداً. ولم يزلن على هذه الحالة إلى أن قرب العصر، فطلعن من البحيرة ولبسن ثيابهن الريش وطرن، فاشتعل فؤاده بحب الصبية الكبيرة وندم كونه لم يسرق ثوبها الريش ثم أصابه المرض لذلك، فامتنع عن الأكل والشرب والنوم...

ولم يزل كذلك حتى لاح الهلال. بينما هو قاعد إذا بهن أقبلن على عادتهن، ولما خلعن ثيابهن ونزلن البحيرة، قام وسرق ثوب الكبيرة حتى لا تقدر أن تطير، وبعدما طارت أخواتها وتركنها، قام وأمسكها ونزل بها من فوق القصر.

سألت أخواتها: أين هي؟ فأجابت: هي عنده في مقصورته، وهي أحسن من البدر ليلة تمامه، وجهها أضوأ من الشمس، وريقها أحلى من الشراب، وقدها أرشق من القضيب، ذات طرف أحور، ووجه أقمر، وجبين أزهر، وصدر كأنه جوهر، ولها نهدان كأنهما رمانتان، وخدان كأنهما تفاحتان، وبطن مطوي الأعكان، وسرة كأنها حق عاج بالمسك ملآن، وفخذان كأنهما من المرمر عمودان، ولها كذلك طرف كحيل، وخصر نحيل، وردف ثقيل، وكلام يشفي العليل، فهي مليحة القوام، حسنة الابتسام، كأنها البدر التمام.

لما سمعت البنات هذه الأوصاف، التفتن إلى حسن وقلن له: أرنا إياها. فقام معهن وهو ولهان، إلى أن أتى بهن إلى المخدع الذي فيه محبوبته وفتحه ودخل وهن خلفه، فلما رأينها وعاين جمالها، قبلن الأرض بين يديها، وتعجَّبن من حسن صورتها وظرف معانيها، وسلمن عليها وقلن لها: والله يا ابنة الملك الأعظم إن هذا أمر عظيم، ولو علمت بمقدار حب هذا الإنسي لك وتعلقه بك غاية التعلق، وأنه ما طلبك إلا في الحلال، لأشفقت عليه، ومِلت إليه، واعلمي أنه أحرق ثوبك الريش، وإلا كنا أخذناه منه، فلا فائدة إلا بزواجك منه.

لما سمعت كلامهن، رضيت بعقد قرانها على حسن، فوضع يده في يدها، وزوجنها له بإذنها، وعملن لزفافها ما يصلح لبنات الملوك، فلما دخل عليها حسن بعد ذلك، زادت محبته لها، وتعاظم وجده شغفاً بما شاهده فيها من بدائع الصفات، فأنشد هذه الأبيات:

قوامك فتان وطرفك أحـــــور

ووجهك من ماء الملاحة يقطر

تصورت في عيني أجل تصور

فنصفك ياقوت ونصفك جــــوهر

وكلك من مسك خلقت وعنبر

وأنت شبيه البدر بل أنت أزهر

وما ولدت حواء مثلك حـــرة

ولا في جنان الخلد مثلك أحور

فإن شئت تعذيبي فمن سنن الهـ

وى وأن شئت عفوا أنت بالعفو أجدر

فيا زينة الدنيا وغاية المنـــى

أيرضيك أني في غرامك أهجر

إلى بغداد

لما كانت الليلة السابعة والأربعون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسناً لما أنشد أمام زوجته تلك الأبيات، كانت أخته وشقيقاتها واقفاتٍ على الباب، فلما سمعن شعره قلن لها: يا بنت الملك سمعت قول هذا الإنسي، فهل صدقت الآن أنه صادق في هواك؟ فلما سمعت ذلك انشرح صدرها وفرحت. ثم إن حسناً أقام معها مدة 40 يوماً في سرور وحبور، والبنات يقمن لهما كل يوم فرحاً، ويقدمن لهما هدايا وتحفاً، إلى أن طابت الإقامة لزوجة حسن هناك، ونسيت أهلها.

أما هو فإنه بينما كان نائماً إذ رأى والدته في المنام حزينة عليه، وقد نحل جسمها واصفر لونها وتغيّرت حالها، وقالت له: يا ولدي كيف تعيش في الدنيا منعماً وتنساني وأنا ما أنساك ولا لساني يترك ذكرك؟ وقد عملت لك قبراً عندي في الدار حتى لا أنساك أبداً. أترى أعيش يا ولدي وأنظرك عندي ويعود شملنا مجتمعاً كما كان؟ فانتبه حسن من نومه وهو يبكي وينوح، ودموعه تجري على خديه كالمطر، وصار حزيناً كئيباً، لا رغبة له في أكل ولا شرب ولا نوم. فلما لاحظت أخته وشقيقاتها حالته، أردن أن يتباسطن معه على عادتهن، لكنه لم يلتفت إليهن، فسألن زوجته عن حاله، فقالت لهن: ما أدري سبب حزنه. ثم التفتت إليه وقالت له: ما الخبر يا سيدي؟ فتنهد وتضجر وأخبرها بما رآه في منامه، ثم أنشد هذين البيتين:

قد بقينا موسوسين حيارى

نطلب القرب ما إليه سبيل

فدواهي الهوى تزيد علينا

ومقام الهوى علينا ثقيل

لما سمعن كلامه وعلمن باشتياقه إلى رؤية والدته، قلن له: لا نقدر أن نمنعك من زيارتها، بل نساعدك بكل ما نقدر عليه، ولكن ينبغي أن تزورنا ولو في كل سنة مرة، فقال لهن: سمعاً وطاعة.

قامت البنات وعملن له الزاد، وجهزن له عروسه بالحلي وكل ما هو ثمين من التحف والهدايا التي تعجز عن وصفها الأقلام، ثم ضربن الطبل فجاءت النجائب إليهن من كل مكان، واخترن منها أحسنها، وأركبن العروس وحسناً نجيبتين، وحملن 25 نجيبة ذهباً، و50 نجيبة فضة، ثم سرن معهما ثلاثة أيام تساوي مسيرة ثلاثة أشهر عند الإنس، ثم ودعنهما وأردن الرجوع، وعانقته أخته الصغيرة وبكت حتى غشي عليها، فلما أفاقت قالت له: يا أخي إذا وصلت إلى بلدك واجتمعت بأمك، فلا تقطع زيارتنا كل ستة أشهر مرة، وإذا أهمك أمر أو خفت مكروهاً فدق طبل المجوسي لتحضر لك النجائب وتجيء بك إلينا، فعاهدها على ذلك، وودَّع هو وعروسه أخته الصغرى وشقيقاتها، ولم يزالا سائرين في الليل والنهار، وهما يقطعان البراري والقفار، حتى كتب الله لهما السلامة، ووصلا إلى مدينة البصرة، وحطَّا رحالهما على باب داره ثم صرف حسن النجائب، وتقدم إلى الباب ليفتحه فسمع والدته وهي تبكي وتنشد هذه الأبيات:

وكيف يذوقُ النومَ من عَدِم الكرى

ويسهر ليلاً والأنامُ رقـــــــــــودُ

وقد كان ذا مالٍ وأهل وعــــــزَّة

فأضحى غريبَ الدار وهو وحيد

له جمرةٌ بين الضلوع وأنـــَّـــــة

وشوقٌ شديدٌ ما عليه مزيـــــــــد

تولى عليه الوجد والوجد حاكـم

ينوح بما يلقاه وهو جليـــــــــــد

وحالته في الحب تخبر أنه

حزين كئيب والدموع شهودُ

بكى حسن لما سمع والدته تبكي وتندب، ثم طرق الباب فقالت أمه: مَن بالباب؟ فقال لها: افتحي ففتحت الباب ونظرت إليه، فلما عرفته خرت مغشياً عليها، فأخذ ينعشها إلى أن أفاقت، فعانقها وعانقته وقبلته، ثم نقل زوجته ومتاعه إلى داخل الدار، ولما اطمأن قلب أمه عليه، وخمدت نيران شوقها إليه، غلبها السرور ففاضت منها العبرات.

ناصر ومنصور

لما كانت الليلة الثامنة والأربعون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن والدة حسن سألته: كيف كان حالك يا ولدي مع ذلك الأعجمي؟ فقال لها: لم يكن أعجمياً، بل كان مجوسياً يعبد النار دون الملك الجبار، ثم أخبرها بما جرى له معه إلى أن جمع الله شملهما، فلما سمعت أمه حكايته تعجَّبت، وحمدت الله على عافيته وسلامته، ثم سألته عن تلك الأحمال التي جاء بها، فأخبرها بما فيها، وفرحت بذلك فرحاً عظيماً، ثم أخذت تلاطف زوجته وتحدثها وتؤانسها وقد أعجبتها ملاحتها، ثم قالت لولدها: الحمد لله على السلامة وعلى رجوعك سالماً.

ونزلت والدة حسن بعد ذلك إلى السوق، فاشترت لزوجته عشر بدلات من أفخر ما في المدينة من الثياب، وكثيراً من الحلي وغيرها وقالت لولدها: يا ولدي نحن بهذا المال لا نقدر أن نعيش في هذه المدينة، وأنت تعرف أننا ناس فقراء، والناس يتهموننا بعمل الكيمياء، فقم بنا نسافر إلى مدينة بغداد دار السلام، لنقيم في حرم الخليفة، وتقعد أنت في دكان، ونتقي الله عز وجل. لما سمع حسن كلامها استصوبه، وقام من عندها إلى السوق حيث باع البيت، ثم أحضر النجائب وحمل عليها جميع ما له ولأمه وزوجته من أمتعة، ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى دجلة، فاكترى سفينة ونقل إليها ماله وأمتعته ووالدته وزوجته وكل ما كان عنده، ثم سارت بهم في ريح طيبة مدة عشرة أيام حتى وصلوا إلى بغداد، فاكترى مخزنا في بعض الخانات نقل إليه ما كان في السفينة، وأقام الجميع ليلة في الخان، وفي الصباح نزل إلى السوق، فلما رآه الدلال سأله عن حاجته وعما يريد، فقال: أريد داراً مليحة واسعة. وعرض الدلال عليه الدور التي عنده فأعجب بدار كانت لبعض الوزراء واشتراها بمئة ألف دينار من الذهب، ثم عاد إلى الخان الذي نزل فيه ونقل أهله وماله ومتاعه إلى الدار، كما زودها بكل ما تحتاج إليه من آنية وفرش وخدم وغير ذلك.

وأقام حسن الصائغ مع أمه وزوجته في بغداد، مدة ثلاث سنوات، مضت كلها في ألذ عيش وأكمل سرور، ورزق من زوجته بغلامين جميلين: اختار لأحدهما اسم ناصر، وللآخر اسم منصور، وبعد هذه المدة، اشتد شوقه إلى أخواته البنات الجنيات، وتذكر إحسانهن إليه وكيف ساعدنه حتى بلغ مقصوده، فعزم على السفر إليهن، وتوجه إلى أسواق المدينة فاشترى منها شيئاً كثيراً من أنفس الحلي والحلل والتحف والهدايا، ونقلها إلى داره، فلما رأتها والدته سألته عما دعاه إلى شرائها، فقال لها: إني عزمت على أن أسافر إلى أخواتي البنات الجنيات لزيارتهن.

فقالت له والدته: لا تغب عنا مدة طويلة يا ولدي، لأننا ما نقدر على فراقك. ووعدها حسن بأن يعود قريباً، ثم أوصاها برعاية زوجته وولديه، وقال لها: إن ثوب الريش الذي كان لزوجتي قد وضعته في صندوق من الحديد، ودفنت الصندوق تحت الأرض في حجرة في الدار، فاحرصي على ألا تصل يدها إليه خلال غيبتي، وإلا طارت به إلى أهلها وأخذت معها ولديْنا، وتكون النتيجة أني أموت حسرة وكمداً، لأني في هذه الحالة لا أستطيع الوصول إليها، فوالدها أكبر ملوك الجان وأكثرهم أعواناً وأموالاً، وهي عنده أعز من نور عينيه، ومن روحه التي بين جنبيه، فمتى ذهبت إليه فإنه لا يفرط فيها أبداً. كذلك أوصيك يا والدتي بأن تتولي خدمتها بنفسك، ولا تمكنيها من مغادرة الدار، أو النظر إلى خارجها فأنا أغار عليها حتى من الشمس والهواء.

فقالت له والدته: أعوذ بالله من مخالفتك يا ولدي، كن مطمئناً كل الاطمئنان وثق بأني سأنفذ ما أوصيتني به، وسترى عند رجوعك إلينا سالماً بإذن الله أن زوجتك وولديك وكل شيء هنا على خير ما يرام .

وأدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد