رغم خمسين عاماً من الاحتلال فلسطين صامدة وتقاوم
خمسون عاما مرت منذ قيام الجيش الإسرائيلي باحتلال الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة والجولان، ونحو سبعين عاما مرت منذ هجر أكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني على يد العصابات الصهيونية، وطوال هذه الأعوام القاسية لم يرضخ الشعب الفلسطيني ولم يتنازل عن حقوقه الوطنية، بل قاوم بكل الوسائل، وفي كل مكان، مقدما عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، ونحو مليون أسير وأسيرة دخلوا سجون الاحتلال.رغم القمع والتنكيل، ومصادرة الأراضي والممتلكات، وتوغل وحش الاستيطان، ورغم فرض اتفاقيات منقوصة ومأساوية كاتفاق أوسلو، ورغم تكرر الاجتياحات والاعتداءات الهمجية الإسرائيلية في الضفة والقطاع، بقيت قضية الشعب الفلسطيني حية، بل أصبحت قضية الضمير الإنساني الأولى في عصرنا. ولعل أعظم مأثرة صنعها الشعب الفلسطيني أثناء ما سماه العرب "النكسة" وبعده، وما سمته إسرائيل "حرب الأيام الستة"، وما سماه الفلسطينيون "عدوان حزيران"، كان ذلك الصمود البطولي للفلسطينيين على أرض وطنهم، ورفضهم الرحيل أو التهجير، بعد أن تعلموا من تجربة النكبة المريرة.
وكثيرون منا يذكرون تصميم آبائهم وأعمامهم وأمهاتهم في تلك الأيام السوداء على أن يبقوا في وطنهم حتى لو كلفهم ذلك حياتهم، فالموت كما كانوا يقولون أهون من إهانة التشريد مرة أخرى. ذلك الصمود العفوي والأسطوري، المستند إلى التجربة التاريخية المريرة، صنع في الواقع أفضل إنجاز للشعب الفلسطيني في كفاحه ضد الحركة الصهيونية، إذ كانت نتيجة ضرب جوهر المشروع الصهيوني القائم على الاستيلاء على الأرض وتهجير سكانها الفلسطينيين، ثم الادعاء أنها أرض بلا شعب. واليوم فإن محصلة ذلك الصمود أن عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية عاد ليصبح أكبر من عدد اليهود الإسرائيليين، ولولا هذا الصمود الإنساني لنجحت إسرائيل في ضم كل الأراضي المحتلة، ولصفت القضية الفلسطينية، وبفضل المقاومة المتنوعة منذ أول أيام الاحتلال، والتي وصلت إلى ذروتها في الانتفاضة الشعبية الأولى، كان الوجود الفلسطيني وجودا فاعلا ومؤثرا لا مجرد كم بشري سلبي. من عاش في فلسطين كل هذه السنوات الخمسين يعرف أن كل منحى من مناحي الحياة كان موضوع مقاومة، فالتعليم صار مقاومة، وأداء الصلاة غدا مقاومة، والوصول إلى العلاج أصبح مقاومة، وبناء بيت أو مدرسة أو عيادة صحية أو جامع أو كنيسة صار شكلا من أشكال المقاومة. أجيال وراء أجيال انخرطت في الأنشطة الكفاحية من أشدها إلى أبسطها، لكنها جميعا كانت نضالا من أجل الحرية والكرامة والخلاص من الاحتلال والاضطهاد والتهجير القسري، وكما ينقلب السحر على الساحر أصبح الاحتلال الجديد تذكيرا وإحياءً لذكرى الاحتلال الأقدم والنكبة الأولى التي ألمت بالشعب الفلسطيني. واليوم لا يواجه الشعب الفلسطيني آثار النكبة والاحتلال الأطول في التاريخ الحديث فقط، بل ما صار منظومة التمييز العنصري (الأبارتهايد) الأسوأ في تاريخ البشرية، وقد أثبتت تجارب المفاوصات الفاشلة المريرة، وأخطاء أوسلو المريعة وما نجم عنها من انشغال بالصراعات على سلطة كلها تحت الاحتلال، أن لا طريق أمام الفلسطينيين سوى الصمود والنضال بشرف وكرامة من أجل حريتهم. وصار واضحا أن الاحتلال لن يزول، واللاجئين لن يعودوا، وأن الأسرى لن يحرروا إلا بتغيير ميزان القوى، عبر المقاومة الشعبية الواسعة وتبني نهج المقاطعة الشاملة للاحتلال، وتعزيز صمود الفلسطينيين على أرض وطنهم، وتكامل مكوناتهم في الداخل والخارج، والعمل على إنهاء كل الانقسامات الداخلية وتحقيق الوحدة الوطنية، وإنشاء قيادة وطنية موحدة.يدرك حكام إسرائيل التأثير الهائل للوجود الديمغرافي الفلسطيني سواء في القدس أو الضفة الغربية والقطاع أو في أراضي 1948، ولذلك كانت مخططاتهم دائما موجهة لتجزئة الفلسطينيين وتقسيمهم وبث الفرقة في صفوفهم، بل إن التجزئة نفسها، أصبحت آلية تطبيق نظام التمييز والأبارتهايد العنصري، كما أشار تقرير باحثي منظمة الإسكوا، ولذلك تحرص حكومة إسرائيل على فصل قطاع غزة عن سائر الأراضي الفلسطينية، وتعمل جاهدة لعزل القدس عن محيطها الفلسطيني، وجل حهدها طوال سبعين عاما كان موجها لتحويل قضية فلسطين من قضية شعب بكل مكوناته إلى مشاكل مجموعات بشرية مجزأة ومنفصلة، ولم توفر فرصة إلا استغلتها لتغذية الانقسامات الداخلية. ولذلك فإن الطريق للنصر والحرية يمر أولا عبر الإيمان الحقيقي بقدرة الشعب الفلسطيني على مقاومة الظلم وقهره، وثانيا عبر الجهد الصادق والمخلص لتوحيد طاقات الشعب الفلسطيني ومكوناته وقواه الكفاحية والسياسية والمجتمعية.قبل خمسين عاما اجترح جيل آبائنا وأمهاتنا مأثرة الصمود على الأرض، فحموا قضية فلسطين من الضياع، فهل يجترح جيلنا اليوم مأثرة تحقيق الوحدة من أجل نيل الحرية؟* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية