حرية الإعلام و«الأمن القومي»
إسكات كل المواقع التي ترى الحكومة المصرية أنها مؤيدة للإرهاب أو داعمة له أو تابعة لدول معادية، لن يحل مشكلتها الإعلامية، التي يتمثل أحد أوجهها في تراجع قدرتها على الإقناع في ظل تردي أداء المنظومة الإعلامية الوطنية.
لا يكاد يوم يمر من دون أن نسمع عن مشكلة تتعلق بحرية الرأي والتعبير في إحدى دول العالم العربي، خصوصاً عندما يتصل الأمر بتدخل حكومي في المجال الإعلامي بداعي "حماية الأمن القومي".يطرح مصطلح "الأمن القومي" إشكالاً كبيراً بسبب صعوبة تعريفه وتحديد نطاقه بوضوح من جانب، واتخاذه غطاء للكثير من الممارسات الخشنة ضد المجال الإعلامي والثقافي والإبداعي من جانب آخر.يقتضي الإنصاف القول إن ذلك التضارب الذي قد يقع بين اعتبارات حرية الرأي والتعبير ومقتضيات حماية الأمن القومي لا يحدث في عالمنا العربي فقط، لكن دولاً متقدمة في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية تشهد أشكالاً منه في بعض الأحيان.
في الشهر الماضي أثار قرار الحكومة المصرية حجب أكثر من عشرين موقعاً إلكترونياً إخبارياً، جدلاً كبيراً، لينقسم الناس حوله بين مؤيد يعتقد أنه أول الطريق لمكافحة المحتوى الداعم للإرهاب عبر وسائط الإعلام، وبين معارض يرى أنه اعتداء على حرية الرأي والتعبير. عند تحليل المواقف التي تم اتخاذها حيال قرار الحجب، نجد أنها صارمة وحادة بدرجة كبيرة، كما أنها لم تترك مساحة لتحليل القرار ولم تسع إلى اقتراب موضوعي شامل إزاءه.تشير المواقف التي تم إعلانها في هذا الصدد إلى آراء أصحابها في نظام الحكم أو توجهاتهم الأيديولوجية أو مصالحهم، أكثر مما تشير إلى مراجعة موضوعية لقرار مثير للجدل يتم اتخاذه في أوقات توتر وتضاغط سياسي.يقول معسكر رفض القرار إن هذا الحجب "ليس إلا استمراراً لمسلسل القمع والكبت الذي تمارسه الحكومة تجاه أي صوت معارض"، وإن الحكومة استغلت تفجر الأزمة مع قطر لكي تصفي حساباتها مع مواقع معارضة لا تمت بصلة للإرهاب أو تنظيم "الإخوان"، وأن هذا المنع "خطير واعتداء على الدستور وانتهاك لحرية الرأي والتعبير".لكن المؤيدين يرون أن القرار حكيم، ويتيح للدولة التخلص من تداعيات "قيام تلك المواقع بتأييد الإرهاب"، وأنه يجب أن تتلو تلك الخطوات خطوات أخرى في الاتجاه ذاته.من جانبي سأسعى إلى مقاربة موضوعية لهذا القرار تستعرض جوانب مهمة فيه، قد يكون الاهتمام بها تراجع في أجواء الانقسام المبدئي حياله:أولاً: إن التعديلات الدستورية التي تم إقرارها في يناير 2014، على الدستور المصري، تحظر مصادرة أو وقف أو إغلاق وسائل الإعلام، لكن قانون الطوارئ، الذي تعيش البلاد في ظله، بسبب إعلان حالة الطوارئ، منذ أبريل الماضي، يتيح ذلك.ثانياً: فيما يتعلق بتغطيتها الأوضاع المصرية تحديداً، لا يمكن النظر إلى بعض المنصات التي تم إغلاقها باعتبارها وسائل إعلام؛ إذ كانت تلك المنصات بمنزلة أدوات دعاية لتنظيم "الإخوان" وبعض التنظيمات الإرهابية الأخرى، كما سعت، بكل وضوح، إلى تقويض الدولة وزعزعة استقرارها، عبر محتوى يثير الكراهية، ويحرض على العنف، ويختلق الوقائع، ويشوه الحقائق.ثالثاً: بعض المواقع التي تم إغلاقها يتبع تنظيم "الإخوان" مباشرة، أو يُمول من جانب حكومات تتخذ مواقف عدائية من الدولة، ويقدم محتوى يهدد الأمن القومي المصري. رابعاً: تقوم بعض دول العالم المتقدمة بإيقاف وتعطيل وسائل الإعلام أو البرامج التي ترى أنها تهدد أمنها القومي أو تخالف الأكواد التي تعلنها لتنظيم الممارسة الإعلامية، وهناك عشرات الأمثلة التي تدعم ذلك، لكن تلك الدول تفعل ذلك من خلال هيئات مستقلة ذات طبيعة فنية، وليس بواسطة السلطة الإدارية.خامساً: إن الأوضاع الأمنية في مصر حساسة، خصوصاً في ظل تصاعد التحدي الإرهابي، ويجب عدم التساهل إزاء أي منصة إعلامية تقدم ذرائع الإرهابيين أو تروج لهم.لكن على الجانب الآخر ثمة ما لا يمكن تجاهله؛ ومنه:أولاً: إن الحكومة لا تمتلك الذرائع الأخلاقية اللازمة لوقف بث تلك المواقع لأنها تتغاضى عن ممارسات مشينة تقوم بها وسائل إعلام مؤيدة لها، ومن بين تلك الممارسات ما يحرض على العنف ويثير الكراهية أيضاً.ثانياً: توسعت الحكومة جداً في تقييم المنصات التي يمكن أن تكون خطرة أو داعمة للإرهاب، بحيث عاقبت أيضاً منصات أخرى تُظهر استقلالية وقدراً معقولاً من المهنية، بغرض إسكات أصوات معارضة؛ مثل موقع "مدى مصر" وغيره.ثالثاً: إن غلق تلك المواقع لن يسكتها تماماً، لأن طبيعة المشهد الاتصالي الراهن تتيح لها العودة عبر تقنيات معينة أو البث عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي.وقد قامت بعض المواقع التي تم إغلاقها بالفعل بإجراءات من أجل استعادة قدرتها على البث خارج نطاق سيطرة أدوات الدولة الاتصالية، كما أرسل عدد آخر من المواقع رسائل إلى جمهوره لتوجيههم إلى حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي التي يصعب جداً غلقها.رابعاً: إن إسكات كل المواقع التي ترى الحكومة أنها مؤيدة للإرهاب أو داعمة له أو تابعة لدول معادية، لن يحل مشكلتها الإعلامية، التي يتمثل أحد أوجهها في تراجع قدرتها على الإقناع في ظل تردي أداء المنظومة الإعلامية الوطنية، وخضوعها شبه الكامل لرؤية السلطة التنفيذية، وتقلص التعدد والتنوع اللازمين إلى درجة قياسية.خامساً: إن الجمهور لا يستكين لرسائل إعلامية تأتيه من مصدر واحد بصوت واحد ورأي واحد؛ ولذلك، فإن التوسع في الغلق والحجب، سيأخذ هذا الجمهور إلى قنوات أخرى يمكن من خلالها أن يتزود بمحتوى ينطوي على درجة مناسبة من التعدد، ويتيح النقد ويبتعد عن التطبيل والتهليل.والشاهد أن مصر تعرضت بالفعل لعدوان إعلامي من بعض الدول الإقليمية، وأن من حق أي دولة أن تحظر الرسائل الإعلامية التي تهدد أمنها القومي، خصوصاً إذا كانت تدعم الإرهاب، لكن ذلك يجب أن يحدث بحذر شديد، وأن يراعي التفرقة بين الأصوات الإرهابية والأصوات المعارضة.والأهم من ذلك، أن الحكومة يجب أن تستخدم معياراً واحداً لمحاسبة الانفلات الإعلامي، سواء كان يصب في مصلحتها أو ضدها، وأن الانفتاح والتعدد والتنوع وتشجيع الآراء الناقدة والمعارضة دليل صحة وحيوية للدولة والمجتمع... وضرورة أمنية ومصلحة وطنية أيضاً.* كاتب مصري