صافح محمد فاضل كلاً من نبيل الهجرسي وصلاح السعدني بحرارة، فيما كان فاتراً مع نور الشريف لدرجة أنه لم يلتفت إليه، فانسحب الأخير بهدوء وذهب ليجلس على كرسي في نهاية الغرفة.

في هذه الأثناء، راح فاضل يتحدّث باهتمام بالغ إلى كل من الهجرسي والسعدني، ثم أشار إلى مدير الإنتاج بأن يتعاقد معهما، وما إن استدار بوجهه حتى وقعت عيناه في عيني نور الشريف، فتفحّصه طويلاً، ثم طلب منه أن يأتي:

Ad

= تعالَ... أنت إيه؟

* أنا معاهم. قصدي زميل الأستاذ نبيل والأستاذ صلاح.

= أنا شوفتك قبل كده؟

* أيوا يا فندم اشتغلت مع حضرتك في سهرة «الامتحان».

= فكرني كنت عامل دور إيه في «الامتحان».

* كنت عامل... عامل يعني دور...

= أيوا أيوا افتكرت.. حتى فاكر اسمك مش أنت.

* محمد جابر.

= أيوا جابر... امشِ كده يا جابر لحد الباب وتعالَ تاني. لف بقى... اقعد على الكرسي ده وحط رجلك الشمال على اليمين... اقف... تعالَ.

نفذ نور الشريف ذلك كله وكأنه نائم مغناطيسياً، وبعد نظرة طويلة ولحظة صمت، نظر فاضل إلى كل من عاصم توفيق ومصطفى كامل وقال:

= هو عادل عوض... إيه رأيكما؟

- هايل اختيار هايل.

ـ فعلا تحس إن الدور مكتوب له.

عاد فاضل لينظر إلى نور، وأشار إليه بالجلوس على الكرسي الذي أمامه:

= تحب تشتغل معانا؟

* طبعاً يا فندم ده شرف ليا.

= إحنا بنعمل مسلسل للتلفزيون العربي اسمه «القاهرة والناس» وأنت هتعمل دور عادل عوض.

* أنا متشكر أوي يا فندم مش عارف أقول لحضرتك إيه؟

= مش تعرف الأول دور عادل ده إيه؟

* مش مهم يا فندم أي حاجة حتى لو فراش بيكنس.

= عادل عوض ده تقريباً بطل المسلسل... محور الأحداث ابن العيلة الرئيسة في المسلسل... هتدخل الأوضة اللي جنبي تمضي العقد.

* مش عارف أقول لحضرتك إيه. أنا في منتهى السعادة إني هشتغل مع حضرتك. أنا...

= خلاص كويس كويس. تمضي العقد وتيجي بكرة الساعة حداشر الصبح فيه بروفة. أوكيه يا أستاذ... بكرة الساعة حداشر كلنا موجودين علشان البروفة.

فرصة العمر

خارج مكتب المخرج محمد فاضل، راح صلاح السعدني ونبيل الهجرسي يمطران نور الشريف بالقبلات والتهاني، لحصوله على أول بطولة تلفزيونية له في عمل كبير تنتظره قيادات وزارة الإرشاد، ويشارك فيه عدد ضخم من النجوم والفنانين، فيما اختلطت مشاعره بين الضحك والبكاء. كان يبكي من دون توقف فرحاً، فقد ساقته المصادفة إلى هذا المكان اليوم، والذي دخله مجهولاً لا يعرف أحد ممن فيه اسمه، وخرج منه بطلاً لأهم مسلسل تلفزيوني يُعدّ له. لكنّ صلاحاً استوقفه الاسم الذي قدّم به نور الشريف نفسه:

= إلا أنت ليه يا ابني ما قولتلوش إن اسمك دلوقت بقى «نور الشريف»؟

* بصراحة لسببين. الأول أني كنت خايف يكون فاكر اسم محمد جابر من ساعة لما اشتغلت معاه في سهرة «الامتحان» وإني لو قولتله إن اسمي نور الشريف ممكن يقول بيعمل نجم عليا قبل ما يشتغل...

= والسبب التاني؟

* كنت حاسس أن الاسم ده وشه وحش عليا من ساعة ما اخترته... علشان كده قولتله محمد جابر... واهو حصل وخدت دور عمري.

بخروج الأصدقاء الثلاثة من مبنى التلفزيون، لم يكن ثمة متسع من الوقت لتنفيذ وعد نبيل الهجرسي بتناول السحور في «حي الحسين». بل اتجه كل منهم إلى بيته مسرعاً للحاق بالسحور والنوم مبكراً استعداداً للموعد المرتقب في صباح الغد، الذي ربما سيتحدّد عليه مستقبل نور.

لم يكن يهمّه أي أمر في الدنيا سوى أن يثبت لكل من حوله، خصوصاً عمه إسماعيل، أن اختياره كان صحيحاً. كان يريد إثبات ذاته كممثل، في أول اختبار له مع البطولة والنجومية، والتي لم يعد بينها وبينه سوى خطوات، لذا لم ينم ليلته بل ظلّ مستلقياً على ظهره، عيناه شاخصتان في سقف حجرته، كأنه يريد أن يقرأ الطالع، ويرى مستقبله كيف سيكون؟ وإلى أين ستأخذه الأيام؟

اتفق الأصدقاء الثلاثة على اللقاء أمام باب التلفزيون في العاشرة صباحاً، قبل موعد البروفة بساعة كاملة. كان أسبقهم إلى الموعد نور الشريف، ووقف يتلفت يميناً ويساراً في انتظار وصول صديقيه، وفجأة نظر إلى داخل المبنى، فإذا بعينيه تقعان على فتاة في عمر الزهور في طريقها إلى التفتح، لم يتجاوز عمرها 14 عاماً، كأنها القمر في ليلة تمامه وقد نزل إلى الأرض. كانت شديدة البياض، بعينين ملونتين، وشعر يداعب خديها يقترب من لون الذهب، ترتدي ملابس زاهية كعصفور أبدع الخالق في ألوان «ريشه» فبدا متلألئاً في ضوء الشمس، حيث وقفت تهتزّ يميناً ويساراً، وفي يديها مجلة تتصفح صورها بسرعة، وهي إلى جوار من تبدو أنها والدتها. فجأة تنبهت الصغيرة لنظرات نور، فقطبت جبينها، وأمسكت بذراع والدتها لتميلها إليها وتهمس في أذنها، وترفع الأم رأسها، وتنظر تجاه نور وقد تبدلت ملامح وجهها إلى الغضب، ثم أمسكت بصغيرتها واستدارتا لتعطيا ظهريهما له. في هذه الأثناء، راح جبين نور يتفصد عرقاً، ويهيم ببصره وقد ثبتت عيناه في محجريهما، ليجد فجأة من يضع يده على كتفه ويخرجه من حالة الذوبان التي كاد أن يختفي معها.

حلم يقظة

كان نبيل الهجرسي وصل ليجد نوراً على هذه الحالة، رافضاً أن يرفع عينيه عن الفتاة التي لم تبلغ الرابعة عشرة من عمرها، وقد أصابت قلبه بسهامها:

= إيه يابني مالك متسمر كده ليه... في إيه؟

* شايف يا نبيل؟

= شايف إيه؟

* البنت الصغيرة اللي مع أمها دي.

= أنت مش عارفها؟

* أنت تعرفها يا نبيل؟

= دي اسمها صافيناز قدري. بس بنت زي العسل... وممثلة هايلة.

* الطفلة دي ممثلة؟

= دي بتمثل قبل منك. بتمثل وهي عندها ست سنين وطلعت في كذا فيلم.

* مش فاكر إني شوفتها في أفلام قبل كده.

= لأنك بتركز مع الكبار... دي عملت كذا فيلم.

* بس تعرف يا نبيل حصلت حاجة غريبة أوي دلوقت.

= خير أوعى تكون عاكستها. دي أمها يا بني فيها عرق تركي... يعني ما عندهاش تفاهم.

* لا لا. تخيل يا نبيل أول ما عيني وقعت عليها شوفت نفسي أنا وهي عروسين في كوشة والناس بيزفونا.

= الله أكبر. أنت وصلت... لولا أننا في رمضان كنت قلت إنك شربت حاجة أصفرا... مين دي يا بني اللي كوشة وعروسة وعريس؟

* صدقني يا نبيل ده اللي شوفته.

= وله. هتفوق وإلا أضربك قلمين يفوقوك. دي طفلة ولا أنت قصدك على أمها.

* والله ما بكدب... ده اللي شوفته حالاً.

= مدد يا سيدي جابر مدد. حي... يالا يا خويا هنتاخر على البروفة... واهو صلاح جه أهو ابقى احيكلو على مهلك.

لم تكن المرة الأولى التي يرى فيها نور الشريف أموراً قبل حدوثها. حتى أن بعض أفراد العائلة أطلق عليه «الشيخ محمد» فلم يكن يتنبأ، بل يرى ببصيرة نافذة أموراً ستقع قبل حدوثها، كأن يقول لمن يجلس معه: «سيصعد عمي إسماعيل الآن، وهو يحمل في يديه كذا وكذا»... وما هي إلا لحظات ويتحقق ذلك، أو يقول: «سيسقط كذا من مكانه»، ويسقط الشيء فعلاً. حتى ظنّ بعض من حوله أن لديه قدرات «العرافين» ويمكن أن يقرأ الطالع. لكنه كان مختلفًا، إذ كان الله يبصره بعض الأمور قبل أن تحدث. مثلما رأى أن هذه الطفلة ابنة الرابعة عشرة من عمرها، والتي لا يعرف عنها أمراً، ستصبح يوماً ما زوجة له.

عاش نور الشريف لحظات عصيبة من القلق والتوتر قبل بدء تصوير «القاهرة والناس». ليس بسبب دوره، لكن خوفاً من أن يستمر عناد القدر معه ويضيع المسلسل منه لسبب أو لآخر، فضلاً عن تخوفه من أن يؤدي الشخصية بطريقة تحوّل حماسة المخرج محمد فاضل عنه، ويضطر إلى تغييره، خصوصاً بعدما همس له بعض المقربين منه بأن هذا الشاب لا يصلح لدور «عادل عوض». لكن سرعان ما بدأ التصوير، ليعيش قلقاً جديداً في انتظار العرض، وحكم الجمهور عليه، مستحضراً جملة «هاملت» الشهيرة: أكون أو لا أكون... تلك هي المشكلة»، إذ شعر بأنه في حالة مزدوجة ينتظر فيها إما شهادة ميلاده أو شهادة وفاته الفنية، وكما علمته الأيام، راح يهيئ نفسه لصدمة منتظرة بعد عرض العمل.

بداية المشوار

فور انتهاء التصوير بدأ عرض المسلسل، وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها نور الشريف أن المسلسل حقّق نجاحاً غير مسبوق، ونجح الممثل الجديد الذي وضع اسمه في الشارة «الوجه الجديد محمد جابر»، ليلفت أنظار الجميع، من فنانين وفنيين ومشاهدين، وراح الجمهور لأول مرة يشير إليه وهو يسير في الشارع ويناديه: «عادل عوض أهو». وبقدر ما كان ذلك يسعده ويثلج صدره، بقدر ما كان يتمنى أن ينادوه باسمه الحقيقي. يريد أن يعرف الجمهور اسم بطلهم الذي أحبوه واتحدوا معه، خصوصاً أنه قدّم شخصية الشاب المثالي النموذجي، الذي تتمناه كل أسرة، وتقع في غرامه أية فتاة.

شعر نور الشريف لأول مرة بأنه تخطى حاجز «النحس»، الذي لازمه فترات طويلة، بعدما بدأ يتذوق طعم النجاح والشهرة، وهو لا يزال طالباً في المعهد، فراح يستعد لتحدٍ آخر ليحقق نجاحاً جديداً، من خلال المعهد، حيث بدأ الاستعداد لتقديم مشروع تخرج السنة النهائية.

بدأت أولى خطوات نور الشريف في الاحتكاك عن قرب بالجمهور الذي يمكن أن يفاجئ أي فنان، مهما علا شأنه، بمزاجه المتقلب، فثمة شرائح، خصوصاً المراهقين، تحب البطل عاري الصدر قوي البنية باسم الشفتين تحوط عنقه سلسلة ذهبية، وفي يديه رقة العاشق وعنف المنتقم، بينما ربما تعجب شريحة أخرى بالرومانسي المثقف اللماح... لكن شخصية «عادل عوض» المثالية لاقت إعجاب الناس من الأطفال إلى الشيوخ، ومن الفقراء إلى الأثرياء، ومن الأميين إلى المثقفين. فلم تكن المسألة بالنسبة إليه كوجه جديد أن ينجح في دور أسند إليه، لكن المهم أن يصل من خلاله إلى الناس، فالجمهور يخلط أحياناً بين مبادئ الممثل وطباعه وبين الأدوار التي يؤديها. لذا كان الحظ حليف نور الشريف، ليس لأنه قدّم له البطولة في أول عمل يسند إليه فحسب، ومن خلال التلفزيون، ذلك الجهاز الخطير الذي يتيح للممثل أن يتابعه الملايين، في حين أن أنجح مسرحية لا يتخطى عدد مشاهديها بضعة آلاف. لكن أيضاً لأنه قدّمه في أول عمل له من خلال دور أقرب إلى المثالية، تلك النوعية من الأدوار التي يحبها الجمهور ويتعاطف معها، بل ويحفظ شكل من يقدمها إن كان جديداً، ويبدأ بالبحث عن اسمه.

لم يكن يهم نور الشريف في كل ما حدث له من نجاح، سوى أسرته. كانت شقيقته أسعد الناس بهذا النجاح، وراحت تتباهى أمام جيرانها وهم ينتظرون موعد إذاعة المسلسل، ليشاهدوا معها البطل «عادل عوض» شقيقها، كذلك عمته وأولاد عمه. لكن قبل هؤلاء كلهم كان نور يريد معرفة رأي عمه إسماعيل.

كان قلب إسماعيل يرقص فرحاً بالنجاح الذي حققه ابن أخيه، ولكنه أخفى ذلك عن نور، فيما كان يفخر به أمام أبناء الحي. كان يمرّ ويجدهم مجتمعين في أحد المقاهي الكبرى، حيث استبدل التلفزيون بالمذياع، ليتابع الرواد «القاهرة والناس»، فيقف ليستمع إلى تعليقات الجمهور وهو يشيد بابن حي السيدة زينب «نور الشريف». وما إن يلمحوا العم حتى يبادر الجميع إلى تقديم التحية له، ويتنافس الموجودون على استضافته على طاولة كل منهم.

شعر نور بأن الدنيا بدأت تفتح له ذراعيها، وأحس بأنه يولد من خلال حياة جديدة تعيشها مصر، تنفتح فيها سياسياً واقتصادياً، بل وثقافياً على العالم، ومن خلال زعيمها الذي يسعى إلى تحقيق العدل الاجتماعي بين الناس، ليس في مصر وحدها، بل في محيطها العربي، إذ أخذت «مصر عبد الناصر» على عاتقها مهمة تحرير الدول العربية والإفريقية.

كذلك كانت مصر بقيادة جمال عبد الناصر، تسعى إلى وضع أسس حياة جديدة، على الأصعدة كافة. حتى أن الرئيس أمر بوضع بنية أساسية لكل الفنون الرفيعة، تمثلت في بناء مجموعة من المعاهد الفنية لأنواع الفنون كافة، من مسرح وموسيقى وسينما، يتخرج فيها الفنانون والفنيون، من ممثلين ومخرجين وكتاب سيناريو ومصورين ومنتجين، فضلاً عن راقصي الباليه والفنون الشعبية والموسيقيين والمطربين.

القاهرة والناس

لم يكن نجاح مسلسل «القاهرة والناس» فاتحة خير على نور الشريف فحسب، بل أيضاً على جيل كامل من الفنانين شاركوا فيه، فارتبط بهم المشاهدون وحفظوا أسماءهم وتابعوا أعمالهم بعدها.

كان نجاح المسلسل طاغياً، وهو أحد أوائل الأعمال التي ظهرت على شاشة التلفزيون بعد إنشائه، حتى صار اسم «القاهرة والناس» علامة على نوعية المسلسلات الاجتماعية التي تكررت بعد ذلك عشرات المرات.

ضمّ المسلسل عشرات الممثلين. إلى جانب الأصدقاء الثلاثة نور الشريف، وصلاح السعدني، ونبيل الهجرسي، شارك فيه عبد الغفور محمد الذي صار اسمه لاحقاً أشرف عبد الغفور، وصلاح قابيل، وليلى طاهر، وحمدي أحمد، وصفية العمري، ومحمد الدفراوي، ومحمد وفيق، وهادي الجيار، ووجدي العربي، وشقيقه محمد العربي، وأحمد الجزيري، وماجدة الخطيب، وفاطمة مظهر، وعبد العزيز مخيون، ويسري مصطفى، وفاروق يوسف، شفيق نور الدين، وحسن حسين، وحسن السبكي، وكريمة مختار، ونادية الشناوي، وليلى فهمي، وتهاني راشد، وعزة كمال، وغيرهم.

البقية في الحلقة المقبلة