كان الفنان الكبير السيد بدير أحد المتحمسين لحسناء الإسكندرية «بولا شفيق»، قبل أن يقابلها كوجه جديد مرشحة لبطولة فيلم «سلطان» أمام فريد شوقي. كان يرى أن ملامحها جديدة على الشاشة، وأنها تصلح للدور خصوصاً بعد نجاحها في اختبارات الكاميرا، متفقاً في ذلك مع وجهة نظر رمسيس نجيب، بينما عارضهما نيازي مصطفى وفريد شوقي، فيما وقف المخرج الكبير صلاح أبو سيف في المنتصف حيث رأى أن وجهها جذاب، لكنها تحتاج إلى تدريب مكثف كممثلة، على أن يحسم الجمهور بعد ذلك نجاحها من عدمه. بعد إجراء الاختبار الثاني للصوت والصورة، تنازل نيازي مصطفى عن رفضه وقرّر قبولها لأداء الدور، ومن جانبها التزمت بولا بالتدريبات المكثفة مع كتيبة النجوم والمتخصصين الذين كلفهم نجيب بإعدادها فنياً. ولكن بقي اختيار اسمها الفني محل جدل...
ذهبت بولا إلى مكتب رمسيس نجيب لتوقيع العقد بشكل رسمي، وفوجئت به يتعاقد معها على بطولة ثلاثة أفلام، بشرط ألا تعمل خلال عام كامل مع منتج آخر، على أن تتقاضى نظير الفيلم الأول خمسمئة جنيه، وألف جنيه نظير القيام ببطولة الفيلم الثاني. أما الفيلم الثالث فيصل أجرها فيه إلى ألف وخمسمئة جنيه، وكان إجمالي عقد الاحتكار ثلاثة آلاف جنيه. وقبل أن توقع عاد الجميع إلى مهمة البحث عن الاسم الفني الذي ستظهر به. - قالت «بولا»: أنا قلت لحضرتك في التلفون...* قلت إيه؟- نادية لطفي* مين نادية لطفي؟- ده الاسم الفني اللي اقترحته عليك.* آآآه... أصلي ما سمعتش كويس في التلفون... افتكرتك بتقولي حاجة تانية. بس ليه «نادية لطفي» مش «سميحة حسين». ثم نطق رمسيس الاسم بأداء موسيقي كمقدمي الحفلات الغنائية: سميييحااا حسييين... الناس كلهم مشدودون لاسم «سميحة» بعد نجاح فيلم «الوسادة الخالية».قال سيد بدير ضاحكاً: أيوه... ساميحا وسلاح (يقصد سميحة التي قامت بدورها لبنى عبد العزيز، وصلاح الذي قام بدوره عبد الحليم حافظ).- قالت بولا وهي تقلده ضاحكة: ناديا لوتفي...* إيه سر اختيارك الاسم، صديقة لك، أو حد من العيلة؟- لا خالص... ده اسم بطلة إحسان عبد القدوس في رواية «لا أنام» اللي مدام فاتن عملتها في السينما، الاسم حلو وعجبني، وأظن أنه هيعجب بنات وشبان كتير، زي ما عجبني.عاد رمسيس نجيب إلى نطق الاسم بطريقته الموسيقية: ناديااا لطفي، وقال: حلو... ثم نظر ناحية السيد بدير وسأله: إيه رأيك؟فقال: حلو فعلاً، وجديد... السينما والمسرح غرقانين سميحة، وبعدين إحنا معانا في الفيلم سميحة توفيق... يبقى كفاية سميحة لحد كده.وافق رمسيس نجيب قائلاً: تمام... هنشتغل على كده، ونرتب حملة صحافية، هنحتاج إلى صور، وحكايات عن هواياتك ونشأتك، ودراستك، ومواقف طريفة من طفولتك، وقصة دخولك الفن، ونبدأ الدعاية...
الصدمة
كانت الصحف بدأت تنشر أخباراً مقتضبة عن مشكلة البحث عن بطلة تشارك فريد شوقي فيلمه الجديد، وكانت نجوميته سطعت بقوة، وأدى هذا التأخير إلى عملية تشويق صحافي لمعرفة اسم البطلة الجديدة، وبدأ الجدل حول من تكون ومُجمل التفاصيل الخاصة بها.وسط تلك الأخبار التي بدأت في الانتشار سريعاً، كان تصوير الفيلم انطلق في جو من التعجل والتوتر، فكان وقت نيازي مصطفى مزدحماً ولديه مشاريع أخرى، ما دفعه إلى أن يضغط فترة التصوير في جدول دقيق وصعب جداً. لكن الممثلة الجديدة كانت تضطره أحياناً إلى إعادة المشهد أكثر من مرة، ما أدى إلى تأخر مواعيد التصوير، فزاد توتر نيازي مصطفى وفريد شوقي أيضاً.إلا أن نادية مع الوقت تعلمت امتصاص ردود الفعل الغاضبة، رغم أنها كانت تشعر بالغربة في الوسط، كذلك بالغربة مع الاسم.قالت: اكتشفت أن العمل في السينما ليس كما تخيلت "كلمتين تمثيل وكاميرا بتصور”، وصحافة تركض ورا النجوم والنجمات. ولكنها مصيبة كبيرة. حفظ سطور طويلة، وأنا أكره الحفظ، كذلك الوقوف بحساب والخطوة بحساب واللفتة بحساب، ولو اتحركت سنتيمتراً، أسمع صرخات الغضب... استوب... إيه ده؟ خرجتي من الكادر... ركزي يا ست نادية.واصلت: حتى اسم نادية كان غريباً عليّ، وكثيراً ما كان المخرج نيازي مصطفى يسألني: جاهزة يا نادية؟ فلا أرد عليه، فيفهم خطأ أنني "مقموصة” وأتعمد عدم الرد عليه، فينفعل ضدي: يا نادية... يا ست نادية... أنت يا مدام ياللي اسمك نادية.وعندما ينبهني الزملاء في الأستوديو، أعتذر إليه موضحة أنني لم أعتد على الاسم بعد، لأنه ليس اسمي الحقيقي، فكان يشدّ شعره من الغيظ ويقول: أنت نادية... والله نادية... احفظيها بقى.كانت فترة صعبة ومشحونة بالعمل والانفعالات، لكنني كنت صبورة ومصممة على النجاح، ولم أتوقف عن العمل حتى في رمضان.كشف المستور
في عام (1958) الذي شهد ميلاد نادية لطفي الفنية، كان عيد الأم تقليداً جديداً في مصر، انطلق قبل عامين على نطاق ضيق، ثم انتشر بين كثير من عائلات الطبقة الوسطى، وتصادف أنه جاء في أول أيام رمضان، عندما يلتئم شمل العائلة في أول إفطار، وكانت الهدايا المعنوية المتبادلة أجمل ما حدث في رمضان ذلك العام. كانت أجمل هدية التي حصلت عليها «بومبي»، حينما توافقت العائلة بالتراضي بشأن عملها في السينما، وحقها في اختيار ما تحب، ما دامت تراعي التقاليد والشروط التي وُضعت صراحة، أو بالصمت المفهوم. في منتصف رمضان، كان أول اختبار حقيقي لردود فعل العائلة تجاه نشر اسم وصور بولا في الصحف، والتداعيات التي ربما تحدث بسبب شهرتها. جاءعادل ومعه نسخ عدة من مجلة «الجيل» التي نشرت موضوعاً كبيراً في مطلع أبريل عن النجمة الجديدة، ليفاجأ بأعداد أخرى من المجلة، وكل فرد في العائلة يفتش في الموضوع بدقة للتأكد من عدم تطرق المجلة إلى أية تحفظات أو مخاوف سابقة موجودة في رأس كل منهم. كان الموضوع بقلم الناقد الفني محمد السيد شوشة، تحت عنوان رئيس: «نادية لطفي... وجه جديد تراه هذا الموسم»، بالإضافة إلى عنوان فرعي نصه: «قال نيازي مصطفى: لا مستحيل... ثم أسند إليها دور البطولة».كتب شوشة يقول: كوكب الأسبوع التي يتحدث عنها الوسط الفني اسمها «نادية لطفي»، ليس لأنها وجه سينمائي جديد، وإنما لأنها جاءت من البيت إلى الأستوديو لتقف أمام الكاميرا أول مرة في دور من أدوار البطولة على الشاشة، من دون أن تكون عرفت الطريق إلى أستوديوهات السينما في يوم من الأيام، وهذا الاسم الذي ستعرف به، مستعار من اسم بطلة فيلم «لا أنام» الذي أدّته فاتن حمامة.وكشف شوشة من دون أن يدري جانباً من قصة التخفي وراء الاسم، فكتب أن الاسم الحقيقي لنادية لطفي هو «نادية حسين»، وأضاف (من دون أن يدري أيضاً) معلومات تبدو عادية، لكنها بلا مناسبة، غير أنها تؤكد قوة هاجس التخفي لدى بولا، ومن هذه المعلومات: أن النجمة الجديدة «مصرية الجنسية»، ووالدها موظف كبير، ومتزوجة من ضابط في الجيش. وأشار شوشة إلى معارضة الأهل قائلاً: كان المنتج رمسيس نجيب في رحلة إلى الإسكندرية فساقته الظروف على غير موعد، لحضور إحدى السهرات العائلية، حيث التقى فتاة لفتت نظره، لأنه رأى فيها الوجه الصالح لتمثيل هذا الدور، فقد ذكرته ملامحها بوجه أنغريد برغمان، عندما كانت في مثل سنها. ولكن مشكلة اعترضته، فكيف يخرج بها من البيت إلى أستوديوهات السينما، ويعرض عليها القيام بدور سوسن الصحافية وهو يعلم أنها سيدة متزوجة من صديق له، وتحيا حياة بعيدة كل البعد عن أضواء السينما. إلا أن صداقته لزوجها الضابط جعلته يجد الجرأة كي يصارحه بهذا الأمر، ويخطبها منه للسينما، وتردّد الزوج وعارضت الأسرة ولكن الفتاة لم تكد تسمع نبأ هذه الخطبة حتى كادت تطير من الفرح، فقد كانت السينما تلوح في خيالها كحلم من أعذب الأحلام، منذ كانت تلميذة في المدرسة الألمانية الثانوية بباب اللوق، وكانت شغوفة بالتمثيل وأدّت بعض الأدوار في المسرحيات المدرسية، كدور «جولييت» في مسرحية شكسبير الذي مثلته بالألمانية.المؤكد أن المعلومات والقصص التي بدأت الصحافة تنشرها وتروجها عن بولا في تلك الفترة، لم تكن كلها حقيقية تماماً، لكنها كانت انعكاساً لما يدور في الجبهة الداخلية، حيث تتواصل معركة تحويل بولا إلى «نادية لطفي»، وما صاحب هذه المعركة من تحديات وتوازنات، ومشاكل وشروط. وفي الموضوع الصحافي الذي نشرته مجلة «الجيل» آنذاك إشارات إلى هذه الشروط والتوازنات، كما تبدو في الفقرة التي كتبها شوشة في هذا النص: «أما آمالها في السينما، فتنحصر في تمثيل الأدوار الأخلاقية التي تصور شخصيات من واقع الحياة، وليست الأدوار الرومانسية التي تعتمد على الحب والغرام والعاطفة، فترقبوا نجم هذه الفتاة... الطبعة المصرية العربية من أنغريد برغمان».دارت التعليقات في جو من الفكاهة والمودة، حول المعلومات الخاطئة التي وردت في المجلة، خصوصاً المعلومة التي تقول إن الاسم الحقيقي لبولا هو «نادية حسين»، فقال الأب ضاحكاً: هتسحرينا فين يا نادية؟فردت بسرعة بديهة: زي كل مرة يا بابا حسين.رد عليها وهو يقهقه بفرحة: قصدك «أحمد بيه لطفي؟».واستغلت بولا الموقف لتقول: دي طبيعة الصحافة الفنية... محتاجين معلومات مسلية للجمهور، حتى لو مش مظبوطة 100%، وعلشان كده نتفق إننا ما لناش دعوة بما ينشر، مش هنرد على كل حاجة، ومش هنلخبط حياتنا علشان كلام إحنا عارفين أيه الصح فيه وأيه الغلط.وعلق الأب: أي معلومات تخصّ شغلك السينمائي مش هتزعلنا في حاجة... المهم نفضل إحنا بعيدين عن الصحافة.وطمأنه عادل إلى أن هذا الكلام متفق عليه، وبولا حريصة على تنفيذه أكثر منا جميعا... وأضاف وهو يغمز بعينه: مش كده يا سوسن؟قالت: كده يا كابتن.وضحك الجميع.إيقاع
بدأت الشهرة تداعب اسم «نادية لطفي»، والصحف والمجلات تهتمّ بنشر أخبارها، قبل أن تظهر صورتها على شاشة السينما، بينما كانت «بولا» منهكة، تعاني لضبط إيقاع الحياة، والتوفيق بين الفن والعائلة، وتأهيل نفسها للاستمرار في وسط شائك، لم تكن تتصور أن البقاء فيه يتطلب حسابات وجهوداً كبيرة.في الأيام الأخيرة من رمضان ذلك العام، تقارب عيد الفطر المبارك مع عيد القيامة المجيد واحتفال شم النسيم، فقررت العائلة تمضية عطلة الإجازات في رأس البر، وكما حدث مع مجلة «الجيل»، أمضت العائلة ليلة سمر حول موضوع في مجلة «صباح الخير» تحت عنوان: نادية لطفي وجه جديد على الشاشة... فتاة من الإسكندرية، والاسم من «لا أنام». وكانت الأخطاء مضحكة أكثر، إذ ذكرت المجلة أن الفيلم الذي تقوم «نادية حسين» ببطولته عنوانه «سلطانة» وليس «سلطان»، وأشار الموضوع إلى الصعوبات التي قابلت بولا في اختبار التمثيل، حيث كتب المحرر: «دارت الكاميرا خمس دقائق، وقفت خلالها نادية للتحدث أمام فريد شوقي... ارتبكت في الدقيقة الأولى، واستجمعت أعصابها في الدقيقة الثانية، وفي الدقائق الثالثة والرابعة والخامسة لم تحس إلا بالدور الذي كانت تؤديه، وفي صالة العرض الخاصة بالاستوديو جلس أكثر من سينمائي لمشاهدة نتيجة التجربة... وأجمع الحاضرون على نجاحها»...لكن القصة لم تكن بهذه البساطة الرومانسية، إذ ظهرت مشاكل كثيرة، وكما قالت نادية لطفي بعد ذلك، فإن الأحجار الصغيرة في البدايات تبدو دائماً لأصحابها كأنها جبال تسدّ الطريق، ولكن بعد تجاوزها، تصبح مجرد ذكريات نحكيها ونضحك.أنغريد ونادية
المسافة كبيرة بين أنغريد برغمان ونادية لطفي، لكن الصحافة الفنية في مصر اختصرت الاختلافات كافة في الوجه الملائكي البريء، وروجت أن نادية هي الطبعة المصرية من الشقراء السويدية التي حققت شهرة طاغية على شاشة السينما العالمية ونالت ثلاث جوائز أوسكار. ولدت أنغريد في السويد قبل نادية بـ22 عاماً (29 أغسطس 1915)، وبينما عاشت نادية طفولة مستقرة، عانت أنغريد اليتم والتنقل، إذ توفيت أمها وهي في عامها الثالث، ووالدها المصور الفوتوغرافي وهي في الثانية عشرة. كذلك توفيت عمتها التي تولّت تربيتها بعد أشهر من وفاة الأب، فعاشت مع خالها الذي ألحقها بالمدرسة الملكية للفنون المسرحية وأثبتت نفسها كممثلة مسرح، ثم قدمت دور عاملة فندق في فيلم للمخرج السويدي غوستاف مولاندر، الذي قدّمها أيضاً في فيلم «أنترميتزو» الذي غير حياتها تماماً. اشترى المنتج الهوليودي ديفيد سيلزنك حق إعادة إنتاج الفيلم في هوليوود، وأدّت أنغريد بطولته. والطريف أن عرض النسخة الأولى من «أنترميتزو» تواكب مع ميلاد «بولا شفيق» التي سميت بعد شهرتها «نادية لطفي».بعد سنوات قليلة انتقلت أنغريد إلى هوليوود لتحقق أسطورة «الوجه الملائكي» على شاشة العالم طوال الثلاثينيات والأربعينيات، ثم بدأت بتنويع أدوارها (كما حدث بعد ذلك مع نادية، إذ انتقلت من ملائكية «الخطايا» إلى أدوار نقيضة مثل «مادي» في «النضارة السوداء»، و«ريري» في «السمان والخريف»، و«زوبة» في «بين القصرين»)، وهي لخصت وصفها هذه التحولات قائلة: ظللت نصف قرن أتنقّل بين صورتي «القديسة» و«فتاة الهوى»، لكنني في الداخل كنت أعرف من أنا. أنا لا أطلب الكثير... أريد فقط... كل شيء».قارئة الروايات
عقل الفنان عندنا مثل «البيت المتهدم» الذي هجره أهله وسكانه، فظل مهملاً خالياً من أي شيء، حتى من مظهر الحياة نفسها. لكن نادية على عكس ذلك، نادية يهمها عقلها جداً والقراءة عندها حالة. إنها لا تقرأ كعملية واجب... القراءة عندها حالة مزاج، وهي عندما تدخل حالة المزاج فلا أحد يستطيع أن يصرفها عنها، وهي تقرأ في كل شيء... لكنها تفضل في القراءة لوناً خاصاً هو الرواية... وقراؤه قلة... نادية قارئة رواية كبيرة.
نواصل كشف الأسرار في الحلقات المقبلة