لما كانت الليلة السابعة والخمسون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد، أن الشيخ أبا الريش طلب من أحد الحاضرين أن يحضر إليه عفريتاً من الجن الطيارين يدعى «دهنش»، فلما حضر اقترب الشيخ منه وهمس في أذنه بكلمات لم يسمعها غيره، فحرك رأسه دلالة على السمع والطاعة، ثم التفت الشيخ إلى حسن البصري وقال له: اركب على كتفي هذا العفريت، وإياك إذا سمعت تسبيح الملائكة وهو مُحلق بك في أعالي السماء أن تفتح فمك مسبحاً مثلهم، لأن هذا يؤدي إلى هلاك العفريت وهلاكك تبعاً لذلك، وسيهبط بك في اليوم التالي وقت السحر إلى أرض بيضاء نقية كالكافور، ثم ينصرف في سبيله، فلا تخف من شيء، وامض في الطريق الذي تجده أمامك، إلى أن تصل بعد عشرة أيام إلى باب مدينة عظيمة، فادخلها واسأل عن قصر ملكها، وهو «الملك حسون» صاحب أرض الكافور، ومتى وصلت إليه، فأعطه الخطاب الذي معك، واعمل بما يشير به عليك. قال حسن: سمعاً وطاعة. ثم ودَّع القومَ وركب على كتفي العفريت «دهنش»، فانطلق به طائراً في الجو فوق السحاب، ولما سمع حسن تسبيح الملائكة كاد يُسبِّح مثلهم، لكنه تذكر نصيحة الشيخ أبي الريش، فأمسك عن التسبيح مكتفياً بذكر الله في قلبه، وفي اليوم التالي أنزله العفريت في وقت السحر فوق تلك الأرض البيضاء التي تشبه الكافور، وتركه هناك ومضى، ونظر حسن حوله فلم يجد إلا فضاء خالياً، فتملكه الخوف والقلق أول الأمر، ثم تذكر زوجته وولديه، وأنه في طريقه إلى تحقيق أمله بلقائهم، فاعتصم بالصبر والشجاعة، وانطلق في الطريق الذي وجده أمامه.
ولم يزل سائراً فيه مدة عشرة أيام، إلى أن وصل إلى المدينة التي وصفها له الشيخ أبو الريش، فدخلها وتوجه لساعته إلى قصر ملكها حيث سلمه الخطاب وقبَّل يديه، فرَّحب به الملك حسون، بعدما قرأ الخطاب، وقال له: أنت في حاجة إلى الراحة من عناء السفر، فتوجه إلى قصر الضيافة حيث تقيم به على الرحب والسعة، وبعد أن تستريح تعال إليَّ في اليوم الرابع، لأسمع حكايتك بالتفصيل، وأقوم لك بكل ما أستطيع، إكراماً لمولانا الشيخ أبي الريش. شكره حسن وقبَل يديه مجدداً، وتوجه إلى قصر الضيافة.وبعد ثلاثة أيام، قضاها حسن معززاً مكرماً في ذلك القصر، وجميع من فيه من المماليك والعبيد والجواري في خدمته ورهن بإشارته، توجه إلى الملك حسون في قصر الحكم، وكرر له الشكر على كرم ضيافته، ثم روى له قصته من أولها إلى آخرها، وبكى وتوسل إليه أن يحقق أمنيته، ويسهل له سبيل الوصول إلى «جزائر واق»، ليطفئ ما في قلبه المشتاق من نيران الوجد والاشتياق، ويتخلص من آلام الفراق. فقال له الملك حسون: يا ولدي إن الطريق إلى هذه الجزائر محفوف بالمخاطر والمخاوف، وعلى من يسلكه أن يقطع كثيراً من البراري والقفار، وأن يخوض لجج البحار، ولا يمكن لأحد أن يسير إلى هناك إلا في جمع كبير ومع حراس أشداء لحمايته في البر والبحر، والرأي عندي أن تصبر وتبقى مقيماً في قصر الضيافة إلى أن يحين موعد حضور قافلة التجار الذين يأتون إلينا من تلك الجزائر، فاعمل على أن تسافر معهم إلى هناك، وأوصيهم بك خيراً، فلا يكون إلاَّ ما يسرك إن شاء الله. ولكن إياك يا ولدي أن تبوح بسرك لأحد هنا، وإذا سئلت عن حالك وسبب حضورك إلى هذه البلاد، فأجب بأنك صهر «الملك حسون»، ولا تزد على ذلك شيئاً. فقال حسن: سمعاً وطاعة، ورجع إلى قصر الضيافة، فأقام به كما كان، وصار في كل يوم يخرج للنزهة مع بعض الأعوان، ويتفرج على ما في المدينة من عجائب مختلفة الأشكال والألوان، وهو أثناء ذلك لا يكف عن البحث والاستقصاء عن موعد وصول التجار القادمين من واق، وكلما تذكر ما عاناه من المشقات، فاضت من عينيه العبرات، وسالت نفسه حسرات.
أكبر السفن
كان الملك حسون يدعوه إليه، من حين إلى حين، ويحثه على التمسك بحبل الصبر المتين، إلى أن يأتي إليه الفرج من رب العالمين، وفيما هو عنده في مجلسه ذات يوم، قال له الملك حسون: ابشر يا ولدي، جاءت الأنباء بأن تجار واق في طريقهم إلينا، ولا تمضي أيام قليلة حتى ترسو سفنهم على ميناء مدينتنا، وسأنزلك في إحدى هذه السفن بعد تفريغها وشحنها، فتقلع بك إلى هناك، حيث تصعد إلى الشاطئ الذي ترسو عليه فتجد هناك دككاً كثيرة معدة لجلوس التجار، فادخل تحت دكة منها واقعد تحتها مختبئاً حتى إذا جن الليل، وجاء التجار كعادتهم لنقل البضائع من السفن، فأخرج من مخبئك، وتعلق بثوب التاجر الذي تجده جالساً فوق تلك الدكة، وتوسل إليه كي يجيرك ويؤمنك على حياتك ويوصلك إلى زوجتك وولديك، وإذا تبينت أن هذا التاجر امرأة، فاستبشر بذلك لأنه دليل على أن حاجتك ستقضى بإذن الله، أما إن وجدته رجلاً أو ذهبت توسلاتك عبثاً، ولم يرض أن يجيرك، فإن هذا يكون نذيراً بانتهاء أجلك وهلاكك، ولن يصيبك إلا ما كتبه الله لك، فتوكل عليه، وسلم أمورك كلها إليه، وعسى الله الذي نجاك، وكتب لك السلامة قبل ذلك أن يتم نعمته عليك، ويقر بلقاء زوجتك وولديك عينيك.لما كانت الليلة الثامنة والخمسون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك حسون صاحب أرض الكافور، ما كاد ينتهي من كلامه، حتى بكى حسن من فرط غرامه وهيامه، وخوفه من ضياع آماله وأحلامه، ثم أنشد يقول: لابد لي من مدة محتومة فإذا انقضت أيامها مـــتُلو صارعتني الأُسد في غاباتهالقهرتها ما دام لي وقتُ فقبل الأرضَ بين يدي الملك حسون، وقال له: أيها الملك العظيم، إنني لن أنسى جميل صنعك معي ما حييت. وأقام في المدينة بعد ذلك أياماً عدة، وهو لشدة شوقه لا يتلذذ بطعام، ولا يهنأ بمنام. وفي صباح اليوم التالي، دعاه الملك إليه، فلما دخل عليه، وقبل الأرض بين يديه، قال له الملك: وصلت السفن الآن يا ولدي، وسآخذك معي إلى الميناء للتفرج عليها وترتيب ما يلزم لسفرك في سفينة منها. فقبل حسن يدي الملك حسون، ودعا له بطول العز والبقاء، ثم خرج معه إلى الميناء، فرأى فيها سفناً عظيمة كثيرة، وقد ازدحم الشاطئ بأصحابها وبحَّارتها وتجار المدينة وأعيانها، واشتدت حركة البيع والشراء، وتفريغ البضائع الواردة، وشحن البضائع الصادرة... كانت سفينة كبيرة جداً واقفة في عرض البحر، بينما أخذت عشرات من الزوارق تتردد بينها وبين الميناء، حاملة منها وإليها مختلف البضائع، فلما رأى الملك دهشة حسن من منظر هذه السفينة، قال له: إنها سفينة ملك جزائر واق، وهي تحمل من البضائع الثمينة النادرة أضعاف ما تحمله السفن الأخرى، ورئيسها هو رئيس القافلة كلها، وسأدعوه إلى مقابلتي، وأنزله في ضيافتي، ثم أخاطبه في شأنك، وما أظن أنه يخالف لي رأياً.مقعد التاجرة
أرسل إلى رئيس القافلة يدعوه إلى ضيافته هو وكل من معه، فلبوا الدعوة مسرورين، وبعدما أكرمهم غاية الإكرام، وغمرهم بالعطايا الجسام... خلا إلى رئيسهم، وقال له: عندي شاب أريد أن تأخذه معك في سفينتك خفية من غير أن يعلم بأمره أحد، وما عليك بعد وصولكم إلى الشاطئ جزيرة واق إلا أن تخرجه إليه وتتركه يمضي في سبيله، فقال: سمعاً وطاعة. ثم أمر الملك له بجائزة أخرى، وبعث في طلب حسن، فلما حضر قدمه لرئيس القافلة وقال له: هذا هو الشاب الذي حدثتك عنه، وهو عندي في مكانة ولدي . ولم تمض على ذلك ساعة حتى كان حسن جالساً وراء ستارة إلى جانب المقعد المخصص لرئيس القافلة في سفينته الكبيرةِ، ثم أقلعت السفينة وبقية سفن القافلة، بعد شحنها كلها بالبضائع، ولم تزل سائرة في ريح طيبة مدة 10 أيام، كان رئيس القافلة خلالها لا يغفل عن تعهد حسن والعمل على راحته وتزويده بالطعام والشراب. وفي اليوم الحادي عشر وصلت القافلة إلى الشاطئ، وكان ذلك قبل الفجر بقليل، فانتهز رئيس القافلة فرصة الظلام السائد، وأمسك يد حسن وأنزله معه في زورق مضى بهما إلى الشاطئ، فاطلعه إليه وتركه هناك ورجع بالزورق إلى سفينته، من غير أن يعلم أحد بما فعل.نظر حسن حوله على الشاطئ، فرأى دككاً كثيرة كبيرة، فدخل تحت أقربها منه، وجلس مختبئاً وهو يدعو الله في سره أن تكون هذه الدكة لامرأة لا لرجل، وأن يرق له قلبها فتجيره وتؤمنه على حياته وتوصله إلى حيث يشاء، ولم يزل كذلك حتى جن الليل، فسمع ضجة أخذت تزداد وتقترب شيئاً فشيئاً إلى أن وصلت إلى الشاطئ، وأدرك من قعقعة السيوف والرماح وشدة خفق النعال أن القادمين يتألف منهم جيش عظيم...ثم لمح من خلال مخبئه أضواء المشاعل، وأشباح البحارة والحمالين والتجار وهم جميعاً في شغل بنقل البضائع إلى الشاطئ من السفن، واستمرت الحال على هذا المنوال ساعات، ثم أخذت الحركة تخف حدتها قبيل الفجر، وشعر هو بأن شخصاً جاء إلى الدكة التي اختبأ تحتها وجلس فوقها، فلم يطق صبرا بعد ذلك، وسارع إلى الخروج من مخبئه، وتعلق بذيل ثوب ذلك الشخص، وأخذ يبكي ويتوسل إليه بكل عزيز لديه أن يجيره ويرحمه...وكان قلبه يكاد يقفز من بين ضلوعه لخوفه من العاقبة، ولكنه تنفس الصعداء واطمأن حينما سمع صوت ذلك الشخص، فإذا هو صوت امرأة تقول: ارجع إلى مكانك تحت الدكة حتى لا يراك أحد فلا أقدر على إنقاذ حياتك، فقبل يديها وقدميها ورجع إلى مخبئه تحت الدكة، وقلبه يخفق سروراً، بعدما كان يخفق فزعاً ورعباً.ولما طلع النهار، انصرفت السيدة التاجرة لإنجاز أعمالها، وبقي حسن تحت الدكة لا يعلم ماذا سيكون مصيره، وأخذ قلقه يشتد من ساعة إلى أخرى، إلى أن جنّ عليه الليل وهو على هذه الحال، وفيما هو كذلك أقبلت السيدة التاجرة ونادته، فلما رد عليها طلبت منه الخروج من مخبئه وأعطته سيفاً وملابس وقالت له: اختلط بالعسكر وأنت في زيهم، وافعل مثلما يفعلون.أرض الطيور
لما كانت الليلة التاسعة والخمسون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن العساكر حين طلع النهار، انصرفوا عائدين إلى خيامهم، فلم يسع حسن إلا أن توجَّه معهم إليها، ولما دخل الجميع خيامهم، بقي حائراً لا يدري ماذا يصنع، ثم رأى على مقربة منه خيمة ليس فيها أحد، فدخلها خائفاً، وجلس في ركن منها يدعو الله أن يسبل ستره عليه، ولم يمضِ قليل من الوقت حتى لمح جندياً مدججاً بالسلاح، قادماً نحو الخيمة، فازداد خوفه واشتد خفقان قلبه، ولما اقترب الجندي منه عرف من هيئته أنه التاجرة التي أجارته، فذهب عنه الخوف، وحمد الله تعالى على هذه المصادفة، ثم نهض لاستقبالها، وقبَّل ذيل ثوبها، فأشارت إليه أن يجلس، ثم أخذت في إلقاء سلاحها، وكشفت عن وجهها القناع الذي كان فوقه، فإذا هي عجوز، زرقاء العينين، كبيرة الأنف، بيضاء الشعر، ذهبت أسنانها كلها، وامتلأ وجهها بالغضون والتجاعيد، ففزع من قبح منظرها، وأخذ في البكاء، كأنه لا يصدق أن مثلها يمكن أن تأتي بخير. لما رأته كذلك أخذت تطيِّب خاطره، وترحِّب به وتلاطفه، ثم سألته أن يروي لها بالتفصيل حقيقة أمره، فواصل البكاء والنحيب، وبقي ساعة لا يجيب، ثم تمالك نفسه وأنشد يقول: متى الأيام تسمح بالتلاقيوتجمع شملَنا بعد الفراقِوأحظى بالذي أرضاه منهمعتاباً ينقضي والود بـاقٍولو أني منحتُ النيلَ دمعيلفاضَ على الشآم مع العراقِكفى بالله صدا يا حبيبيكفاني من صدودك ما ألاقـي ثم روى لها حسن قصته من أولها إلى آخرها. لما انتهى من حديثه، اندهشت العجوز من غرابة قصته، ورقَّ قلبها لحالته، وقالت له: طب نفساً وقر عيناً يا ولدي، فما بقي عليك خوف، وثق بأنك ستنال مقصودك بإذن الله تعالى، واعلم أني رئيسة العساكر هنا، وفي غد ننادي بالرحيل، وآخذك معنا. ولكن إذا كنت صبرتَ على ما لقيت من الشدائد حتى وصلت إلى هنا، فيجب أن تكون أكثر صبراً منذ الآن، كي تصل إلى تحقيق أملك، لأننا الآن في أول جزائر واق، وزوجتك موجودة في الجزيرة السابعة الكبيرة، التي هي مقر عرش والدها ملك ملوك الجن، وبيننا وبينها مسيرة سبعة أشهر ليلا ونهاراً.لما كانت الليلة الستون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز رئيسة العساكر، كان اسمها «شواهي»، وتكنى بـ «أم الدواهي»، أكدت لحسن أنها لن تتخلى عنه أبداً إلى أن يصل إلى زوجته وولديه، ثم قالت له: احمد الله الذي سلمك وأوصلك إلى هنا، ولو كنت وقعت عند غيري، لكانت روحك راحت ولم تقض لك حاجة، ولكن صدق نيتك ومحبتك وفرط شوقك إلى زوجتك وولديك أوصلاك إلى هنا، ولولا أنك لها مُحب ولهان ما كنت خاطرتَ بنفسك هذه المخاطرة، والحمد لله على السلامة، وسنقضي لك حاجتك ونساعدك حتى تنال بغيتك عن قريب إن شاء الله تعالى، ونسير من هنا حتى نصل إلى أرض يقال لها "أرض الطيور”، ومن شدة صياح الطيور وخفقان أجنحتها لا يسمع بعضنا كلام بعض!وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.وإلى حلقة الغد