أبوعبدالرحمن الهذلي المكي، اشتهر بابن أم عبد، اسمه: عبدالله بن مسعود، وكان رجلاً قصيراً، يكاد طوال الرجال يوازونه جلوساً وهو قائم، شديد السمرة، وكان جسمه صغيراً، خفيف اللحم، حتى أن الريح لتكفؤه، وكان في ساقه دقة، أثارت ضحك أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين أمر ابن مسعود أن يصعد شجرة الأراك فيأتيه بسواك منها، فنظر أصحابه إلى حموشة ساقيه، فضحكوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يضحككم؟"، قالوا: من دقة ساقيه، فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحد".

1. شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالجنة، وكان حظه أنه أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله، في مواجهة فردية مع صلف المشركين، ولم يكن له قوم يمنعونه، وقام عند المقام، فقال رافعاً صوته: "بسم الله الرحمن الرحيم، الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ"[الرحمن: 2،1]، فاستقبلها فقرأ بها، فتأملوا، فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد؟، ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا بوجهه فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله قط أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً، قالوا: حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون.

Ad

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب سماع القرآن منه، قال له ذات مرة: "اقرأ عليَّ"، فقال عبدالله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إني أحب أن أسمعه من غيري". فقرأ ابن مسعود من سورة النساء حتى وصل إلى قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا)[النساء: 41]، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى فاضت عيناه، وقال: حسبك الآن.

وكان عمر يقول عنه: كُنيّف مُلئ علماً، (الكنيف: تصغير كنف، وهو الوعاء)، يقصد: وعاء ملئ علماً، سيَّره الخليفة عمر إلى الكوفة، وكتب الى أهلها: إني قد بعثت إليكم عماراً أميراً وابن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر، فاسمعوا لهما، واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعبدالله على نفسي.

له رواية لقراءة القرآن، وله رواية لمئات الأحاديث، وفي كتابه "أسماء الصحابة وما لكل واحد منهم من العدد" وضعه ابن حزم الأندلسي رقم ثمانية في المكثرين من أصحاب المئين (رواة الحديث بالمئات)، وذكر أن له ثمانمئة وثمانية وأربعين حديثاً، وله في مسند "بقي بن مخلد" بالمكرر ثمانمئة وأربعون حديثاً، وروى له الجماعة، واتفق له البخاري ومسلم على أربعة وستين حديثاً، وانفرد له البخاري بإخراج أحد وعشرين حديثا، وانفرد له مسلم بإخراج خمسة وثلاثين حديثاً.

حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وله رواية عن سعد بن معاذ الأنصاري (في البخاري)، وعن صفوان بن عسال المرادي (في النسائي)، وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (في النسائي)، وروى عنه جمعٌ غفير من الصحابة والتابعين.

مرض عبدالله بن مسعود مرض الموت، ودخل عليه أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، يزوره، وقال له: أنأمر لك بطبيب؟، فقال عبدالله: الطبيب أمرضني.

ولقى ابن مسعود ربه، سنة 32 هـ، وعمره قد تجاوز 60 عامًا، ودفن بالبقيع.