في أي عالم نعيش؟!
في عالمنا المفتوح على كل شيء لم تعد الرقابة تجدي، فلا سطوة الرقيب قادرة على الإمساك بتلابيب ما يتسرب من فكر وثقافات قد اختلطت وتفاعلت فيما بينها، ليخرج منها نمط فكري جديد وأساليب حياة وأدوات مختلفة ومتطورة، لم تترك مجالا إلا كانت حاضرة فيه بقوة، مع نشأة الطفل الذي تفتحت عيناه عليها، وحتى الشيخ الذي تعرف عليها ولو متأخرا، علق بها حين عرف أنها لغة العصر وأداته الناجزة التي تختصر كل شيء وتعطي الفائدة المؤكدة عندما يحتاج إليها. نتوقع من كل مثقف أن ينحني اعترافا بفضل العلم الجبار والثابت، ليجعل منه أداة توقد جذوة العطاء السامي فيه، وأن يكون هو الرسول المقدام للتعريف بكل ما ينتجه العلم مما توافر بين يديه على اعتبار أنه الأكثر بحثا واستنباطا وأقدر على طرح الجديد بالشكل الذي يلائم المجتمع وحالاته المتفاوتة المستويات.الذي بين أيدينا الآن من التقنيات كان بالأمس غير البعيد مجرد حديث يتداوله أصحاب الخيال العلمي، ولكن قدرة الإنسان الخلاقة لا تتوقف عن البحث والجد في تحويل هذا الخيال إلى شيء ملموس لحاجته له ما دام قد خطر في خياله، كما كان مع كل جديد اكتشفه وأصاب منه منفعة.
ما توصل إليه العلم سيبقى غير كامل لأن أسراره كثيرة، وما أتيح لنا اكتشافه إنما هو اليسير "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، حتى غير الربانيين يجدون أنفسهم صغارا مع كثير من الاكتشافات أمام آيات الله الكثيرة التي لم تحظ بالتدقيق العلمي، مما يجعلنا ندرك وبوعي كامل أن كل ما وصلنا إليه من معارف إنما هو جزء من كثير ما زال خفيا، ربما رحمة بنا لأن الإنسان بطبعه واقع بين نزعات وغرائز تتجاذبه بين خير وشر، وهنا علينا أن نتخوف من معرفة كل الأسرار التي لم نصل إلى اكتشافها رحمة بنا، كما نجد أمثلة في بعض الأسلحة الفتاكة التي اكتُشِفَت وصُنِعَت بغرض الحماية، فتحولت في يد أشرار البشر إلى أسلحة دمار تفتك بالجميع دون تمييز! ليست الأسلحة الفتاكة اختراعات واكتشافات فقط، ولكن هناك أسلحة لا تقل فتكا عنها، وهي كثيرة متعددة تتطور بتطور العقل البشري، كما نجد في وسائل الإعلام والفنون بأنواعها وفي طريقة التفكير المجتمعي حين يخرج عن الجادة بعيدا عن القيم الرفيعة التي حفظت للإنسان إنسانيته، ويختلط الجاد بالهزل فتكون الصورة المُثلى التي يريدها الإنسان السَوي صورة تتراكب فيها التشوهات لتصبح صورة بشعة لا يطيقها.رؤية الجانب المشرق والتعامل به هو الأكثر إسعادا للنفس الإنسانية، بل حاجة ملحة في زمن كثرت فيه الحروب والصراعات في عالم تحول إلى بركان يغلي، وبشر تحولوا إلى وحوش لا يدركون قيمة الجمال والحب الذي فـُطرت النفس البشرية عليه باختلاف عقائد البشر وثقافاتهم وأماكنهم عبر الزمن منذ الخليقة. نحن على موعد في كل لحظة مع الجديد من الاكتشافات والفهم الأوسع لمعنى الحياة ولدورنا فيها وطريقة تفكيرنا في تحويل كل قبح في النفس الإنسانية إلى جمال ومحبة وصفاء.* كاتب فلسطيني - كندا