لما كانت الليلة السادسة والسبعون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد، أن حسناً لما سمع هذا الكلام، قال لنفسه: لعل الله سبحانه وتعالى ساق إليَّ هذين الغلامين ليفرج كربتي، بواسطة هذا القضيب وتلك الطاقية، فأنا أحق بهما في غربتي وكربتي من هذين الغلامين. ثم التفت إليهما وقال لهما: هل تقبلان حكمي، وتتركان المخاصمة والمشاجرة، فيأخذ كل منكما الطاقية أو القضيب حسب الحكم الذي أصدره؟ فقالا له: نعم نرضى حكمك ولا نخالفه. فقال لهما حسن: قفا حيث أنتما وأحدكما إلى جانب الآخر، وسآخذ حجراً من الأرض وأقذفه إلى أبعد ما أستطيع، ثم تنطلقان في وقت واحد إلى الموضع الذي يهبط فيه، فمن وصل منكما إليه وجاءني به قبل أخيه، كان القضيب من نصيبه، وكانت الطاقية من نصيب الآخر.
فقبل الغلامان دخول المسابقة بهذا الشرط الذي وضعه حسن، ثم أخذ حجراً صغيراً من الأرض وقذفه بأقصى ما فيه من قوة، وأعطى لهما الإشارة بالركض لإحضار الحجر، وما كادا ينطلقان وكل منهما مشغول بحرصه على أن يسبق الآخر، حتى تناول حسن الطاقية ووضعها على رأسه، ثم أخذ القضيب أيضاً، وانتقل بعد ذلك من الموضع الذي تركاه فيه إلى موضع آخر غير بعيد منه، وقال لنفسه: إن كان ما ذكراه حقاً، فإنهما لن يرياني بعدما وضعت الطاقية على رأسي، وعلى هذا أمضي في سبيلي وأدعهما وشأنهما.وكان الولد الأصغر أسرع جرياً من أخيه الأكبر، فوصل قبله إلى الحجر الذي رماه حسن، ورجع به إلى الموضع الذي بدأ منه السباق، ولكنه لم يجد حسناً هناك، ولم يعثر على أي أثر له في ما حوله، فأخذته الدهشة ووقف حائراً، ثم لحق به أخوه بعد قليل، وقال له: هنيئاً لك بنصيبك يا أخي، الآن طابت نفسي أن يكون القضيب من نصيبك، والطاقية من نصيبي. فقال له أخوه الأصغر: يبدو يا أخي أننا خسرنا القضيب والطاقية معاً، وأخذهما ذلك الرجل الغريب الذي اخترناه حكما بيننا، وهذه عاقبة التخاصم والتحاسد بيننا نحن الأخوين الشقيقين. فوقع الأخ الأكبر مغشياً عليه من الهم والغم، فلما أفاق قال لأخيه الأصغر: لا بد من أن نبحث عن ذلك الغريب لنسترد تركة أبينا منه، فأجابه قائلاً: لا فائدة يا أخي من البحث عنه، إذ يكفي أن يضع الطاقية على رأسه فلا يراه أحد، ولعلك تذكر أن والدنا طالما أوصانا في حياته بألا نتخاصم فنكون من الخاسرين، وقد خسرنا كل شيء الآن لأننا لم نعمل بتلك النصيحة، بينما ظَفر ذلك الغريب بتركة والدنا كلها. ثم غادرا المكان، وهما يبكيان من شدة ما لحق بهما من الخسران والمصائب والأحزان. أما حسن فقال لنفسه بعد انصراف الغلامين: يحسن الآن أن أرجع إلى بيت العجوز «شواهي»، لأرى ما تم في أمر زوجتي وولديْنا .
مغارة السحرة
لما كانت الليلة السابعة والسبعون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز شواهي بعدما ضربتها الملكة نور الهدى، عقاباً لها على التدخل في شأن تعذيبها أختها منار السنا، توجهت إلى منزلها وهي تبكي وتندب حظها، وترثي لمصير سيدتها الصغيرة الملكة منار السنا وولديها وزوجها، وفيما هي جالسة في منزلها دخل عليها حسن وعلى رأسه تلك الطاقية، فلم تره أو تشعر به.وكان بالقرب منها رف عليه أوانٍ مصنوعة من الخزف والزجاج الصيني، فمد حسن يده وأوقع بعضها على الأرض أمامها، فنهضت مذعورة، ولما رأت الأواني المكسورة تلفتت حولها فلم تر أحداً، فظنت أن الملكة نور الهدى سلطت عليها عفريتاً لينكِّل بها، فاشتد بكاؤها وصراخها وأخذت تلطم وجهها وتصيح قائلة، أقسمت عليك أيها الشيطان، بحق الحنان المنان، العظيم الشأن القوي السلطان، خالق الإنس والجان، وبحق النقش الذي على خاتم سليمان، ارحم ضعفي وشيخوختي، وارأف بحالتي، فقد كفاني ما أنا فيه من نكبتي، وجحود سيدتك الملكة نور الهدى بعد طول خدمتي.لما سمع حسن كلامها، رفع الطاقية عن رأسه، فظهر أمامها بصورته التي نعرفها، فأخذت تنظر إليه متعجبة، ثم واصلت البكاء، وقالت له: لماذا رجعت يا ولدي؟ أسرع بالفرار ومغادرة هذه الديار، فإن الملكة نور الهدى قبضت على زوجتك وحبستها مقيدة معلقة من شعرها، ولا تزال تضربها وتعذبها أمام ولديها، بغير شفقة أو رحمة، كذلك ضربتني وعذبتني، وأرسلت أعوانها للبحث عنك في كل مكان كي تقتلك مع زوجتك وولديك، وجعلت لمن يأتي بك إليها قنطاراً من الجواهر، علاوة على تعيينه رئيساً لحرسها بدلاً مني بعدما طردتني وجردتني من رتبتي.فقال لها حسن وهو يبكي لما أصاب زوجته وولديه: كيف أغادر هذه الديار، وأترك زوجتي وولدي العزيزين في ذلك العذاب؟ لا بد لي من أن أخلصهم، أو أموت معهم، فقالت له: إنك لا تقدر على الوصول إليهم، والملك الأكبر نفسه قد فوض ابنته الكبرى نور الهدى في أن تفعل بهم ما شاءت، بعدما أفهمته أن أختها عشقتك وعاشرتك معاشرة الأزواج وجاءت بولديها منك في الحرام، فقال لها حسن: خسئت الكاذبة الملعونة، إن منار السنا زوجتي بشرع الله، وقد مَنَّ الله عليّ بالوسيلة التي فيها خلاصنا جميعاً. ثم روى حسن للعجوز شواهي كيف حصل على القضيب والطاقية، وعرضهما عليها، فلما رأتهما عرفتهما وظهر البشر في وجهها، وقالت له: إن والد الغلامين كان أستاذي الذي علمني السحر، وقد سمعت منه أنهما بعد موته يخشى أن ينتقلا بالحيلة إلى رجل غريب من الإنس، فالحمد لله يا ولدي على أنهما كانا من نصيبك أنت، وكل ما أطلبه منك، أن تأخذني معك بعد إنقاذ زوجتك وولديك، لتنقذوني من الحياة في هذه المدينة الظالمة.... وفي نيتي أن أقضي ما بقي من عمري في مغارة للسحرة تقع في طريقكم. وعدها بذلك، ثم ودعها وخرج قاصداً إلى السجن الذي فيه زوجته وولداه، بعدما وضع الطاقية على رأسه.لقاء الأحبة
لما وصل إلى باب السجن، وجده مغلقاً، فانتظر على مقربة من حراسه وهم لا يرونه لوجود الطاقية على رأسه، ولما فتحوه في الموعد المحدد لتعذيب منار السنا بأمر أختها نور الهدى، دخل قبلهم من حيث لا يشعرون، ثم أغلق الباب خلفه من الداخل، فوقفوا جميعاً وهم يرتعدون رعباً ودهشة من رؤيتهم الباب يغلق من تلقاء نفسه. أما حسن فمشى داخل السجن حتى وصل إلى الموضع الذي علقت فيه زوجته من شعرها، فوجدها تبكي وتنظر إلى ولديهما الواقفين بالقرب منها، فكاد يصرخ من فرط ألمه، لكنه سمعها تنشد هذين البيتين:لم يبق إلا نَفَس هافــــتومقلة إنسانها باهتومغرم تضرم أحشـــاؤهبالنار إلاَّ أنه ساكتثم أغمي عليها، فوقع هو الآخر مغشياً عليه، ووقع على الأرض حيث سقطت الطاقية عن رأسه، فصار ظاهراً للعيان وبذلك وقعت عيون ولديه عليه، فسارعا إليه، وأخذا يقبلان يديه وقدميه، وهما يبكيان فرحاً برؤيته، بعد طول غيبته، فلما أفاقت والدتهما وسمعت صياحهما وذكر اسم والدهما، زاد ما بها من الوجد والألم، وأنشدت تقول:وذكرت يوم البين بعد مودعي فجرت على الخدين مني أدمعيوحدا بهم حادي الركاب فلم أجدصبراً، ولا جلداً، ولا قلبي معيورجعت لا أدري الطريق، ولم أفقمن لوعتي وتفجعي وتوجعيوأضر ما بي في التباعد شامتٌقد جاءني في صورة المتخشعيا نفس قد ذهب الحبيب، ففارقيطيب الحياة، وفي البقا لا تطمعييا صاحبي انصت لأخبار الهوىحاشا لقلبك أن أقول ولا تعيأروى الغرام مسلسلاً بعجائبوغرائب، حتى كأني الأصمعيلما كانت الليلة الثامنة والسبعون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة منار السنا، بعدما فرغت من إنشاد شعرها، سألت ولديها: ما الذي جعلكما تذكران اسم والدكما الآن؟ فقالا لها: إنه هنا معنا. فتعجبت من كلامهما ولم تصدقهما، ثم جاهدت حتى تمكنت من النظر إلى جهتهما وهي معلقة من شعرها والدماء تنزف من جسمها، ولكنها لم تجد أي أثر لحسن، لأنه كان في تلك اللحظة أفاق من غشيته، وأخفى نفسه بلبس طاقيته، ووجدت ولديها يبكيان ويندبان، حزناً على اختفاء والدهما من المكان، فبكت لبكائهما، وأنشدت تقول:خلت الديار من الحبيب الألمعييا مقلتي جودي بفيض الأدمعرحلوا فكيف تصبري من بعدهم أقسمت لا قلبي ولا صبري معييا راحلون وفي الفؤاد محلهمهل للتلاقي بعد ذا من مرجعما ضر لو رجعوا وفزت بقربهمورثوا لفرط تألمي وتوجعياجروا سحائب أدمعي يوم النوىعجباً ولم يطفأ تضرم أضلعيهم اطمعوني أن أشاهد حسنهمثم انثنوا فكأنني لم اطمعبالله يا أحبابنا عودوا لنامن قبل أن ألقى بهمي مصرعيثم اشتد عويلها وبكاؤها، بينما سالت دماؤها، وانقطع من الحياة رجاؤها، وأخذ ولداها في البكاء والعويل أيضاً، فلم يطق حسن صبرا على هذا المنظر الأليم، وخلع الطاقية عن رأسه، وكشف لزوجته وولديه عن نفسه، ثم سارع إلى حل وثاقها، وسعدت بعناقه كما سعد بعناقها، والتف بهما الغلامان، وهما من شدة فرحهما يبكيان، ويمسكان والدهما مخافة أن يختفي مجدداً من المكان.الطاقية والقضيب
بعد ذلك، روت منار السنا لزوجها حسن كل ما جرى لها منذ افترقا، ثم سألته كيف استطاع الحضور إلى جزائر واق، وكيف تمكن من الوصول إلى سجنها الذي وضعت فيه مشدودة الوثاق؟ وقالت له: بالله عليك يا حبيبي كفى مخاطرة بنفسك، وأسرع الآن بالفرار من هنا قبل أن تأتي أختي نور الهدى فتراك، ويكون نصيبك معنا الهلاك. وما أتمت كلامها، حتى كانت أختها حضرت ووقفت بالباب وحولها أعوانها من الحراس والحجاب، ولما علمت بغلقه من الداخل أخذها الغضب الشديد، وأمرت بفتحه بالقوة، فلما شعر حسن بفتح الباب، وضع الطاقية على رأسه، فلم تره هي ولا أعوانها عند دخولهم. وكانت منار السنا وولداها أغمي عليهم من الرعب والفزع، فلما رأتهم الملكة على هذه الحالة، أخذت تركلهم بقدميها، وتهوى على أجسادهم بالسوط الذي في يديها، كل هذا وصدر حسن يغلي من الغيظ. فلما انصرفت نور الهدى وأعوانها وأغلق باب السجن من الخارج، خلع حسن الطاقية عن رأسه، ثم توجه إلى موضع زوجته وولديه وأخذ ينعشهم حتى أفاقوا، ثم قال لهم: هذا آخر عهدنا بالعذاب إن شاء الله، فبكت منار السنا وقالت له: كيف تركتك الملعونة ولم تقبض عليك؟ فقال لها: اطمئني يا حبيبتي، فلا خطر علينا بعد الآن. ثم روى لها قصته من أولها إلى آخرها، وقال لها: في هذه الليلة نغادر هذا السجن، بل نغادر جزائر واق كلها ونمضي على بركة الله في طريقنا إلى دار السلام، وما دمنا نملك الطاقية والقضيب، فكل بعيد بإذن الله قريب.لما سمعت منار السنا كلامه، بكت من فرط سرورها، وأنشدت تقول:ولقد ندمت على تفرق شملناندما أفاض الدمع من أجفانيونذرت إن سمح الزمان بقربنا ما عدت أذكر فرقة بلسانيوأقول للحساد: موتوا حسرةوأقول: سبحان الذي أعطانيلكنني يوم اللقاء وجدتنيأبكي بدمع هاطل هتانهجم السرور عليّ حتى أنهمن فرط ما قد سرني ابكانييا عين قد صار البكا لك عادة تبكين في فرح وفي أحزانوكان الحراس عند الباب سمعوا إنشادها فأخذتهم الدهشة، ودخلوا ليروا ماذا هناك، فلما سمع حسن صرير فتح الباب عاد إلى لبس الطاقية فاختفى عن الأنظار، ووقف في ركن بعيد من المكان يرقب ما يكون وقال الحراس لمنار السنا: ماذا كنت تقولين؟ فقالت لهم: كنت أبكي على نفسي، وأندب حظي وبؤسي، فهزوا روؤسهم آسفين، وتأثروا بما هي فيه من بكاء وأنين، ثم تركوها وعادوا إلى أماكنهم أمام الباب، بعدما أغلقوه مجدداً، وأخذوا يتحدثون في ما بينهم مستنكرين ظلم الملكة نور الهدى لأختها، وتصميمها على تعذيبها حتى موتها.نصيحة
لما كانت الليلة التاسعة والسبعون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة نور الهدى لما علمت بأن أختها منار السنا وولديها أفاقوا من غشيتهم التي تركتهم فيها داخل السجن، قررت قتلهم في صباح اليوم التالي، وأمرت أعوانها بإعداد العدة لذلك. فلما تبلّغ الحراس عند باب السجن بالأمر، اشتد تأثرهم حزناً على منار السنا وولديها، ودخل واحد منهم عليها، وقبل الأرض بين قدميها، ثم قال لها: اعذرينا يا سيدتي فنحن عبيد مأمورون، ولو كان الأمر في أيدينا ما كنا نلمس قلامة ظفر في يدك، ولكنك تعرفين مقدار تحكم الملكة واستبدادها وليس في وسعنا أمر لتخليصك من ظلمها، وكل ما يمكننا أن نحضر لك الليلة ما تشتهين من طعام أو شراب، لأنها ستأتي إلى هنا في الصباح، وفي نيتها التخلص منك ومن ولديك نهائياً.ثم بكى الحارس، وبكت منار السنا، كما بكى ولداها، بينما حسن ينظر إليهم وهم لا يرونه لأنه وضع الطاقية على رأسه عند دخول الحارس. بعد ذلك قالت منار السنا للحارس: أشكرك وأشكر رفاقك على كريم عواطفكم نحوي، والموت أمر مقدر علينا جميعاً، ولست أخشاه لأن فيه راحة لنا مما نحن فيه من سجن وعذاب، كذلك لا حاجة إليّ بطعام أو شراب، وحسبي أن أقضي ليلتي أصلي لله وأدعو على تلك الظالمة الغادرة. فقبل الحارس يديها وانصرف وهو يبكي، وما وقعت عيناها على حسن بعدما رفع الطاقية عن رأسه عقب انصراف الحارس، حتى تعلقت به وقالت له وهي تبكي: الملعونة اعتزمت قتلنا في الصباح فلا فائدة من وجودك معنا هنا الآن، وخير لك أن تنجو بنفسك وتنصرف من هنا عند فتح الباب.وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وإلى حلقة الغد