الإسراف عادة مجتمعية مزمنة، نحن جميعاً مبتلون بها ونمارسها في شهر رمضان الفضيل، في كل عام وعلى جميع مستوياتنا وطبقاتنا، هناك قطاع عريض من الناس الذين يتصورون أن طبيعة الشهر الفضيل تتطلب الإسراف وزيادة الإنفاق، حباً في الخير والثواب وبركة رمضان، وهكذا يرتبط شهر رمضان في أذهان الكثيرين بزيادة الاستهلاك مع أن الإسراف في رمضان يتنافى مع أهداف الصوم، وبخاصة أن معظم ما يتبقى من أصناف الطعام يذهب هدرا للنعمة ولا يستفاد منها، يقول تعالى، "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً". هناك فارق بين الكرم والإسراف، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، كريماً جواداً وبخاصة في رمضان، لكنه الكرم العقلاني المتبصر الرشيد الذي يفرق بين التوسعة على الأسرة والمحتاجين، والإسراف المظهري المؤدي إلى هدر النعمة. إن أطناناً من بقايا الموائد الرمضانية تذهب إلى الحاويات وتستنزف الميزانيات ولا هدف لها إلا المظاهر والمباهاة، ورغم أن العلماء والوعاظ يكثفون جهودهم في توعية الناس وفِي تحذيرهم من الإسراف، والأطباء بدورهم يحثون الصائمين على الإفادة من فضائل رمضان الصحية والنفسية، إلا أن الحاصل أن هذه المواعظ والنصائح لا تحقق أهدافها إلا قليلا، وذلك لأن الناس تحكمهم العادات والمظاهر أكثر من التوجيهات والنصائح، وخصوصا أننا جميعاً نعيش في ظل نظام اقتصادي ريعي محفز على الاستهلاك والتباهي.
للإسلام توجيهات سامية في ترشيد السلوك الاجتماعي سواء في إنفاق المال أو المأكل أو المحافظة على الموارد أو حفظ النعمة، فهذا الإسراف والتبذير والهدر مما يغضب الله تعالى وينذر بزوال النعمة، يقول تعالى "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ"، ويحذرنا من التبذير "... وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ"، وإنما نهى عن الإسراف لأنه لا خير فيه، إذ يؤدي إلى ضياع حق الآخرين في العيش السوي، فما جاع فقير إلا بإسراف غني. يقول أستاذ الاقتصاد الإسلامي د. محمد عبدالحليم عمر، إن إنفاق الدول العربية على الغذاء في رمضان لا يتفق مع جلال الشهر الفضيل ولا مع مقاصد الصوم وأهدافه، والإسلام يضع لسلوكنا الاقتصادي في كل وقت وفِي كل مكان، قاعدة ذهبية للإنفاق والاستهلاك، تتلخص في ضرورة التزام المسلم بالاعتدال، فلا تقتير ولا إسراف، ورغم أن ظاهرة السفه الاستهلاكي في المجتمعات العربية لم تعد ظاهرة رمضانية فحسب، بل هي موجودة طوال شهور السنة، كما تؤكد التقارير الاقتصادية والظواهر الحياتية، إلا أن السفه في التعامل مع الطعام والشراب في رمضان، طبقاً لأستاذ الاقتصاد الإسلامي، أصبح سلوكاً مستفزاً لا يتفق أبداً مع السلوك الواجب للمسلم خلال شهر الصوم.ترشيد السلوكيات: يصعب تغيير السلوكيات المظهرية في مجتمعات محكومة بنمط اقتصادي ريعي إلا من خلال إجراءات عملية يتعاون فيها الجميع، الأسرة والمؤسسات المدنية والدينية والإعلامية والتوجيهية وغيرها من المؤسسات التنفيذية، على القيام بمسؤولياتها تجاه الترشيد المطلوب، بداية بالأسرة التي ينبغي عليها تربية أفرادها وتعويدهم على السلوكيات السليمة في الإنفاق، ومن المهم أن يكون الأبوان قدوة حسنة لأولادهما، وعلى الإعلام تكثيف برامجه في التوعية في صياغة أنماط استهلاكية رشيدة تسهم في التنمية الاقتصادية سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي، وعلى أئمة المساجد وخطباء الدروس الدينية تكثيف الخطب الدينية بتعظيم قيمة ترشيد الاستهلاك والطاقة وصيانة النعمة ونبذ الإسراف، وعلى الجهات الرقابية لحماية المستهلك إحكام رقابتها على الأسواق والمحلات لمنع ارتفاع الأسعار والسلع وبخاصة في شهر رمضان، وعلى الجمعيات الخيرية وجمعيات النفع العام ومؤسسات المجتمع المدني، التنسيق والتعاون في تبني مبادرات وبرامج حفظ النعمة، وهي برامج تعنى بجمع فائض الأطعمة من الولائم والموائد والفنادق، ومن ثم حفظها وتوزيعها من خلال وجبات يومية صحية ومغلفة بشكل احترافي، ويتم الإفادة من فائض الأطعمة إما بشكل مباشر مما يفيض وهو صالح، أو بإعادة تدوير ما يرمى.ختاماً، ينبغي علينا جميعاً ترجمة تعاليم الدين وتوجيهاته في سلوكياتنا وبخاصة في هذا الشهر المبارك حتى نحقق أهداف ومقاصد الصوم ونغنم الثواب والأجر وبركة الشهر الفضيل. *كاتب قطري
مقالات
ظاهرة الإسراف الرمضاني
12-06-2017