تحدي أنجيلا ميركل لأوروبا

نشر في 12-06-2017
آخر تحديث 12-06-2017 | 00:12
تدرك ميركل أن الولايات المتحدة لا غنى عنها لأمن أوروبا، لكنها تعرف أيضا أن رئاسة ترامب قد ألقت بظلال من الشك على الضمان الأمني الأميركي والقيم المشتركة التي ربطت الجانبين بقوة حتى الآن.
 بروجيكت سنديكيت لم تُعتبر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قط متحدثة مثيرة، في الواقع اشتهرت بكلامها اللطيف الذي يجلب النوم إلى مستمعيها، لكن كل ذلك تغير قبل بضعة أيام، خلال الحملة الانتخابية في ضاحية تروديرينغ في ميونخ، ألقت ميركل، من خيمة الجُعة، خطابا قويا هيمن على العناوين الرئيسة على ضفتي المحيط الأطلسي.

مع اقتراب العطلة المسيحية "ويتسونداي" بسرعة، تساءل الكثير عما إذا كانت ميركل مستوحاة من روح القدس، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فقد تكون قد حفزت على العمل بعد أن قضت عدة ساعات مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال قمتي الناتو ومجموعة السبع الأخيرة، ومما لا شك فيه أن الانتخابات الاتحادية القادمة في ألمانيا مهمة جدا بالنسبة إليها.

لكن خطاب ميركل لم يكن مجرد خطاب في "خيمة الجُعة في مدينة جوسلار"، ولم تكن تحاكي المستشار السابق غيرهارد شرويدر، الذي شن حملة في بلدة جوسلار في يناير 2003، الذي أعلن آنذاك أن ألمانيا لن تشارك في حرب العراق، بغض النظر عما إذا كانت تحظى بدعم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أم لا. كان خطاب ميركل في تروديرينغ أكثر أهمية وليس مجرد حملة انتخابية.

وقالت ميركل: "إن الأوقات التي يمكن أن نعتمد فيها بشكل كامل على الآخرين قد انتهت، إلى حد ما"، "وبالتالي لا يسعني إلا أن أقول إنه يجب علينا نحن الأوروبيين أن نتحكم في مصيرنا". قد يعتبر البعض هذا الخطاب بمثابة ابتعاد ألمانيا عن التحالف عبر الأطلسي، وأنه يسعى إلى إعادة تنظيم استراتيجية، أو دخول مرحلة جديدة من انعدام الأمن، لكن بيان ميركل لم يقصد شيئا من هذا القبيل.

وقد عرف كل من كان يعير الانتباه لبعض الوقت أن التغيرات التاريخية التي تحدث اليوم لم تنشأ في ألمانيا، بل إنها تنبع من العضوين المؤسسين للغرب الجيوسياسي: الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فقبل انتخابات ترامب واستفتاء بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي لم ير الألمان أي سبب لإجراء تغييرات جوهرية على النظام الجيوسياسي القائم.

لكن هذين الحدثين هزا الأساس الذي استقر عليه السلام والازدهار في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وإن قرار بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي يمكن أن يلهم الدول الأخرى على أن تحذو حذوها، ويوحي برنامج ترامب الانعزالي، "أميركا أولا" أن الولايات المتحدة ستتخلى عن دورها القيادي في العالم، وربما ستتخلى عن ضمانها الأمني لأوروبا.

وقد تجنب الأوروبيون كارثة ذات أبعاد تاريخية في انتخابات الرئاسة الفرنسية في الشهر الماضي، حيث إنه لو تم انتخاب مارين لوبان من الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة لوضعت حدا لليورو والاتحاد الأوروبي والسوق المشتركة، ولأغرقت أوروبا القارية الآن في أزمة اقتصادية وسياسية عميقة.

على أولئك الذين ما زالوا يدعمون أوروبا الموحدة أخذ العبرة من فشل فرنسا الذي كان وشيكا، لئلا يعيد التاريخ نفسه، ويجب على أوروبا تعزيز قدرتها على العمل، والتصدى للأزمات والظروف المتغيرة. كانت هذه هي الرسالة من تصريحات ميركل.

في الوقت نفسه كانت ميركل تعالج المناقشات الجارية بين النقاد والمعلقين الصحافيين حول ما قد يعنيه بريكسيت ورئاسة ترامب لمستقبل التعاون عبر الأطلسي والأوروبي، وعندما أشارت ميركل "نحن الأوروبيين يجب أن نتحكم في مصيرنا"، كانت تقول حقيقة واضحة.

ومع ذلك فإن أولئك الذين قللوا من قدرة ميركل يمكن أن يعتقدوا أنها ستبتعد عن منظمة عبر الأطلسي، كما تدرك ميركل أن الولايات المتحدة لا غنى عنها لأمن أوروبا، لكنها تعرف أيضا أن رئاسة ترامب قد ألقت بظلال من الشك على الضمان الأمني الأميركي والقيم المشتركة التي ربطت الجانبين بقوة، حتى الآن.

ويظهر تحليل دقيق لكلمات ميركل أنها لم تكن تشكك في مستقبل التحالف عبر الأطلسي، وبدلا من ذلك كانت تطالب بأوروبا أقوى، إذ تعلم جيدا أنه إذا ضحت الولايات المتحدة بمكانتها على رأس النظام الدولي لأسباب سياسية محلية، فلن تحل محلها قوة قيادية جديدة، ولن يظهر نظام عالمي جديد، وسينتج عن ذلك فراغ السلطة، مصحوب بنوع من الفوضى، وبما أن العالم أصبح أقل استقرارا، فلن يكون أمامنا خيار، نحن الأوروبيين، سوى العمل معا للدفاع عن مصالحنا، ولا أحد آخر سيفعل ذلك بالنيابة عنا.

لذلك كان خطاب ميركل أولا وقبل كل شيء حول أهمية تقوية أوروبا، ولحسن الحظ وجدت شريكا في الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ويريد الزعيمان تحقيق الاستقرار في منطقة اليورو واستعادة النمو الاقتصادي وتعزيز أمن أوروبا مع وضع قوة حدود مشتركة وسياسة جديدة للاجئين.

كانت ميركل تعني بالتأكيد ما قالته في تروديرينغ، وبالنظر إلى السياق الدولي المضطرب وندائها الأخير للاتحاد الأوروبي، ليس هناك بديل سوى اتخاذ إجراءات، ويمكن أن تترتب على ملاحظاتها عواقب بعيدة المدى على مكانة ألمانيا في الاتحاد الأوروبي وعلاقتها بفرنسا. إن دور ألمانيا الحالي التي تعرف خبايا الأمور في منطقة اليورو يتعارض مع النهج الجديد الذي يجب أن تتخذه ألمانيا اليوم، ومن أجل إظهار القيادة الحقيقية في إطار الشراكة الفرنسية الألمانية سيتعين على ألمانيا تقديم تنازلات سياسية.

وعلاوة على ذلك، لمجرد أن ترامب يقول شيئا لا يعني تلقائيا أنه على خطأ، فإن على ألمانيا وأوروبا عموما أن تفعلا أكثر من ذلك بكثير لضمان أمنهما، وتقوية الجسر عبر الأطلسي تعزيزا للسلام والازدهار في أوروبا، وفي حين نتابع هذا المشروع يجب أن نلتزم بقوة بالقيم الليبرالية التي تجعلنا موضع حسد من لدن الديمقراطيين المبتدئين، ومن لدن نخبة من المستبدين في جميع أنحاء العالم.

* وزير الخارجية الألماني ونائب المستشار من عام 1998 إلى عام 2005، وقائدا لحزب الخضر الألماني لما يقرب من 20 عاما.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

على ألمانيا وأوروبا أن تعملا على ضمان أمنهما وتقوية الجسر عبر الأطلسي تعزيزاً للسلام والازدهار في أوروبا

دور ألمانيا العارفة بخبايا الأمور في منطقة اليورو يتعارض مع نهجها الجديد الواجب اتخاذه اليوم

انتخابات ترامب واستفتاء بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي هزا أساس استقرار السلام والازدهار في أوروبا
back to top