أصدرت أخيراً مجلة «منارات ثقافية» في عددها الثاني، ما الهدف منها وإلى من تتوجّه؟

{منارات ثقافية» هي سلسلة أبحاث أكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية تصدر دورياً باللغات الثلاث، العربية والفرنسية والإنكليزية، وتهدف إلى تنشيط البحث الجادّ واستقطاب أقلام مشهود لها بالكفاءة. تتجه إلى احتضان الكفاءات الواعدة من الباحثين الشباب وتوفير ظروف مناسبة لهم لإبراز طاقاتهم وتوظيف أبحاثهم لزيادة درجة الوعي، والبحث عن سبل تجاوز التحديات والنهوض بمجتمعاتنا. في الأزمنة الصعبة لا بد من إعلاء شأن الكلمة، وتغليب العلم والمنطق والعقل، وهي مهمة يتشارك فيها المثقفون الحقيقيون الذين تقع على عاتقهم مهمة التغيير وبناء الفكر الواعي.

Ad

تطرح المجلة إشكالية الترجمة كأداة للتواصل ووسيلة لنقل المعرفة، إلى أي مدى تساهم الترجمة إيجاباً في تقريب المسافات بين الشعوب وهل معايير الترجمة في عصر الترجمة الآلية تختلف عما كانت عليه في الماضي؟

تمثّل الترجمة أداة أساسية للتواصل على المستوى العالمي، وهي أشبه بـ{جسر عبور» بين الحضارات الإنسانية، والمحفّز لقيام نهضة ثقافية واقتصادية. حين تنقل الترجمة الآداب والفنون والعلوم والتقنيات من ثقافة إلى أخرى، تهيّئ أرضية صالحة لتلاقح الثقافة المتلقية ونموّها وازدهارها.

من الواضح في عصرنا أن البلدان التي تترجم أكثر هي التي تحقّق تقدّماً أكبر. وأكبر مثال على ذلك ما حققته الحضارة الإسلامية في عصور غابرة. فحين ترجم العرب في ما مضى عن اليونانية، والسريانية، والهندية، والفارسية في مجالات متنوعة وخصوصاً العلمية، أنتجوا نهضة واسعة نتجت عنها اختراعات واكتشافات. أما الترجمة الآلية أو الترجمة بمساعدة الحاسوب، فقد توفر العناء وتقدم بعض الخدمات، لكن لا غنى عن الترجمة البشرية للحفاظ على أصالة النص.

أزمة الترجمة

يكثر الحديث عن أزمة في الترجمة في العالم العربي، ما هي أبرز المعوقات التي تحول دون النهوض بها؟

المحاولات الجادة التي تقوم بها مؤسسات عربية تعنى بالترجمة أمر لا يجب الاستهانة به والتقليل من أهميته، إلا أن معوّقات كثيرة تعترض قيام مشروع حضاري متكامل، فثمة نقص في عدد المترجمين المؤهلين في الميادين العلمية كافة، إلى جانب قضية المصطلحات وفوضى سوق النشر وضعف عمليات التمويل وتداخل السياسي بالثقافي.

كذلك ثمة موضوعات لا يتوجب مقاربتها ولا يُسمح بترجمتها، خصوصاً في ما يتعلّق بالأنظمة السياسية القائمة أو المرأة أو الدين، وتعتبر هيئات معينة أن الإنكليزية والفرنسية هما لغتا التقدم ويجدر تحسين تدريس اللغات الأجنبية بدل بذل جهود مضنية في الترجمة قد لا تؤتي ثمارها.

هذه الموضوعات المعقّدة تطرح مسألة أساسية، وهي الترجمة المتكافئة: كم عدد الكتب التي تترجم من العربية إلى لغات أخرى وتُبرز الواقع الحقيقي لحضارتنا ومجتمعنا؟ في الواقع إنه عدد ضئيل، وعلينا بذل مجهود ضخم في هذا المجال. فلا بد أولاً من هيئة تتولّى اختيار الكتب المهمة التي تعطي صورة واضحة عن الفكر والمجتمع العربي، والتعريف بها وإبراز أهميتها لدى دور نشر أجنبية واسعة الانتشار، يترافق ذلك مع تأمين دعم لترجمتها. بذلك تكون الترجمة في الاتجاهين عاملاً للحوار مع الآخر وللتفاعل بين الثقافات، وسبيلاً لإزالة سوء الفهم والقوالب الجامدة.

هل من نهضة مرجوة في هذا المجال؟

كل عملية نهضوية تطرح أسئلة شائكة. لذا يتوجّب على الترجمة التي هي حاجة ثقافية وحضارية أن تأتي من ضمن خطة قومية شاملة. من هنا، تحتاج البلدان العربية إلى عملية ترجمة مؤسسية وممنهجة ترتبط باستراتيجية ثقافية قومية. ثمة فجوة بين ما تنتجه ثقافتنا العربية وثقافة الغرب، ما يتطلّب ترجمة آلاف الكتب في مجالات المعرفة المختلفة لتتسنّى لنا مواكبة العصر وإشكالياته. قد تكمن البداية في إيجاد نمط من التنسيق بين مراكز الترجمة في الوطن العربي. يلي ذلك وضع استراتيجية عقلانية للترجمة يجري من خلالها تحديد الأهداف القومية والمعرفية الضرورية لعملية الترجمة وما يجب أن يشكل غاية نهضوية للترجمة. أعرف تماماً أن هكذا طموح قد يبدو طوباوياً في الظرف الراهن، لكنها فكرة يجب أن ترسخ في الأذهان، ولا سبيل لقيام نهضة فعلية من دون هذا المسلك.

رغم ضبابية الصورة، أعتقد أن الأمور ليست على درجة من السوء الذي يتصوره البعض، ذاك أن الخبرات التي تكتسبها المؤسسات التي تُعنى بالترجمة حالياً، والتجارب التي تقوم بها والصعوبات التي تواجهها وتسعى إلى تذليلها لا بد من أن تقودها في النهاية الى بلورة مشروع متكامل.

في مؤلفاتك تتناول مسألة علاقة الشرق بالغرب. كيف تنظر إلى هذه العلاقة، وكيف تطوّرت هذه الصورة في السنوات الأخيرة مع تنامي الأحداث في المنطقة والعالم؟

شغلني هذا الموضوع في أبحاثي كافة، وتناولته في كتابيّ {الشرق في مرآة الرسم الفرنسي» و{النظرة الى الآخر في الخطاب الغربي». في الأول، استعرضت تيار الاستشراق الفني منذ نشأته حتى أفول نجمه في مطلع القرن العشرين، ملقياً الضوء على حقبات مهمة كان فهم الغربيين للشرق يشوبُه التضليل والتشويه، علماً بأن هذا التيار أنتج مجموعات ضخمة من الرسوم واللوحات لا تزال تُعتبر تحفاً فنية تعكس صورة عن شرق السحر والجمال.

أما في الثاني فرصدتُ نظرة الغربيين إلى الشرق من القرون الوسطى حتى مطلع القرن العشرين عبر تحليل نماذج أدبية مختارة من الرواية والمسرح وأدب الرحلة. وللأسف، أتى معظم الاستنتاجات سلبياً لكثرة القوالب النمطية الجامدة، والتعامل مع الشرق من خلال الثنائية الاستقطابية الشرق/ الغرب، ومقولة «التمحور على الذات» أو «الحضارة- النموذج» بدءاً من عصر التنوير الذي أعطى زخماً لنزعة الهيمنة الأوروبية على سائر البلدان، خصوصاً بلدان الشرق، بهدف «تمدينها» وإدخالها الى الحضارة.

أما في السنوات الأخيرة فازداد الأمر تعقيداً مع تنامي ظاهرة الإرهاب التي تستوجب الخروج من دائرة المعالجات التقليدية وتشكيل جبهة موحّدة ضد التطرّف بأشكاله ومنطلقاته. يجب وضع حدّ نهائي لمقولة الحضارات المحكومة بالصراع وما تنطوي عليه من تشنّجات عنصرية، والإيمان بتفاعل الثقافات وبدورها المشترك في قيام مجتمعات أكثر إنسانية. من هنا ضرورة الالتفات إلى ذواتنا قبل إطلاق الأحكام على الآخرين. تبدأ معرفةَ الآخر حُكماً بمعرفة الذات، ويبدأ فهم الآخر بالاعتراف به كقيمة ثقافية وحضارية ودينية والتخلّص من هاجس ترويضه ونسخه على الصورة التي نريد.

دور مؤسسات التنشئة

لك تجربة في عالم المعاجم، من خلال إصدار «المنجد الفرنسي-العربي الكبير». أين تكمن جِدته في ظل النشاط المعجمي المتزايد في العالم العربي؟

يضم {المنجد الفرنسي-العربي الكبير» أكثر من 60 ألف مادة، من بينها أكثر من 25 ألف مصطلح علمي وتقني؛ وهو معجم يتلاءم مع المتطلبات العصرية، وتكمن حداثته في استيعابه مصطلحات جديدة موزّعة على مختلف ميادين المعرفة. في هذه الإضافات تحتلّ المصطلحات العلمية الحديثة مرتبة بارزة. ولا بد من الإشارة إلى أن هذا المعجم لا يخفي البتة طموحاته الموسوعية. فهو يُدخل بعض التحديدات لتوضيح مفهوم فلسفيّ أو أنتروبولوجيّ أو علميّ، أو يُضيف بعض الشروحات لإلقاء الضوء على تيار أدبيّ أو فنيّ أو على حدث تاريخيّ، وذلك بشكل مقتضب وواضح يساعد القارئ على فهم الأساسيّ ويزيل من ذهنه اللّبس والغموض. من هنا، يحافظ هذا المعجم على روحيته الأساسية في كونه يشكّل مرجعاً عاماً، إلا أنه، وإلى حد كبير، يستجيب لمتطلبات أهل الاختصاص. إنه في الوقت ذاته مَعين للطلاب في المدارس والجامعات، كما هو مرجع أساسي للأساتذة والباحثين والمترجمين والصحافيين.

توليت منصب مدير كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية- فرع طرابلس، إلى أي مدى يتفاعل الشباب اليوم مع الفكر والثقافة حارج إطار ثقافة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وهل ما زال للكتاب أهمية لديهم؟

لا يخفى على أحد التغيّر الواضح الذي ظهر لدى الشباب الجامعي في ظل هيمنة التكنولوجيات الحديثة. ثمة تراجع في دور مؤسسات التنشئة التقليدية، ومنها الجامعة، مقابل تأثير الإنترنت على ثقافة الشباب والعمل الشبابي المشترك. فما لاحظناه هو تراجع هائل لعدد الطلاب الذين يرتادون المكتبة أو يستعيرون الكتب، وتراجع في استخدام اللغة الفصحى، وضعف في مستوى اللغات عموماً، بفعل استخدام لغات هجينة ومفردات سريعة ومختصرة. لكنه واقع يجب التعامل معه بعقلانية، والسعي إلى استثماره إيجاباً، لا سيما إذا أدركنا وفق دراسات عدة أن ما بين 15 و 20 % من الشباب يستخدمون المواقع الثقافية للإفادة منها في البحث العلمي.

بالقدر الذي يمكنه أن يكون منزلقاً خطيراً بالنسبة إلى الشباب، يمكن للإنترنت أن يفتح أمامهم آفاق العالم الرحبة، ويمكّنهم من الوصول إلى معلومات في طور التحديث الدائم، بأسرع وقت ممكن. فإذا وجهنا الشباب بالاتجاه الصحيح، ندفعهم إلى ملاقاة التطوّر بوجه أفضل.

قراءة تاريخية

حول الجديد الذي يعمل عليه راهناً يقول د. جان جبور: «أنا الآن بصدد إنهاء ترجمة كتاب «بحر الخلفاء، تاريخ المتوسط الإسلامي من القرن السابع إلى القرن الثاني عشر» للباحث والمؤرخ الفرنسي كريستوف بيكار. وهو يتبنى قراءة تاريخية مغايرة للفضاء المتوسطي، استناداً إلى النتاج الغزير المكتوب الذي تركه العرب في تلك العصور، والتوثيق الأثري الذي يشهد ازدهاراً، ما يسمح بإعادة تقييم الدور الذي أداه المسلمون في تاريخ المتوسط. كذلك أهتمّ بإنجاز العدد الثالث من «منارات ثقافية» الذي سيصدر في سبتمبر، ويتضمن ملفاً حول «المعجمية وصناعة المعاجم»، بالإضافة إلى أبحاث متفرقة في العلوم الإنسانية والاجتماعية.