نشر بوهوميل هرابال روايته «عزلة صاخبة جداً» بنفسه عام 1976، ولم تصدر رسمياً حتى عام 1989 بسبب رقابة الدولة البوليسية آنذاك.

تروي «عزلة صاخبة جداً» قصة رجل عجوز أبله يعمل في إتلاف الورق في براغ؛ يحفظ ويجمع أعداداً كبيرة من المخطوطات والكتب النادرة والمحظورة من خلال عمله. هي حكاية جامع معرفة مهووس ينتصر على الدولة البوليسية التي أرادت أن تنتصر على المعرفة.

Ad

ترجم الرواية منير عليمي وراجعها ودقّق فيها منصور العمري، وصدرت أخيراً عن «منشورات المتوسط» في 122 صفحة من القطع الوسط.

جاء في صحيفة «نيويورك تايمز» أن «هرابال صرخة ضد نهاية الإنسانية، وكتابه «عزلة صاخبة جداً» إنقاذ من اللامبالاة القاتلة الفاعلة في قتل الحرف أكثر من أشدّ آلات الإتلاف تعقيداً». أما صحيفة «الغارديان» فكتبت: «أطلقت حكايات بوهوميل هرابال عن الناس العاديين ثورة سينمائية في وطنه، وأصبحت الحانة التي اعتاد على ارتيادها في براغ مزاراً لكبار الشخصيات. أثبت هرابال أنه أسطورة زمنه».

ويُعد بوهوميل هرابال أبرز أديب تشيكي في القرن العشرين. ولد في مدينة برنو. انتقلت عائلته إلى مدينة نيمبورك على نهر إلْبِه، حيث تلقى تعليمه وأمضى سنوات يفاعته. ظهرت تجارب هذه المرحلة في ثلاثيته القصصية «بلدة على شاطئ النهر» وفي «البلدة التي توقف فيها الزمن».

لم يبدِ هرابال اهتماماً بالمدرسة وواجباتها. بعد حصوله على الشهادة الثانوية عام 1935 انتسب إلى كلية الحقوق، وصار يحضر في الوقت نفسه محاضرات تاريخ الأدب والفن والفلسفة، ولم يتمكن من إنهاء دراسته حتى عام 1946 بسبب إقفال الجامعة في فترة الاحتلال النازي لبلده، فعمل في أثناء الحرب في الخطوط الحديد وفي شركة للتأمين وبائعاً متجولاً، ثم في معمل لصهر الحديد منذ عام 1949. تعرّض عام 1953 لحادث مؤلم اضطره إلى الانتقال إلى مستودع لجمع الورق القديم. وتجلت تجارب هذه المرحلة في بعض أبرز أعماله القصصية مثل «عزلة صاخبة جداً».

منع وحرية

في الجزء الأول من سيرته الذاتية الثلاثية «أعراس في البيت» وفي «خدمتُ ملك إنكلترا»، بدأ هرابال الكتابة الأدبية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، لكنه لم ينشر أياً من كتاباته حتى الخمسينيات، ولم يتفرغ كلياً للأدب حتى عام 1963. لكن السلطات السوفياتية في تشيكوسلوفاكيا منعته من النشر منذ عام 1970 فصار ينشر بعض أعماله في مجلات المهجر ودور نشره.

نشر عام 1975 مقالة في النقد الذاتي في مجلة «تفوربا» Tvorba في براغ، أدت إلى التساهل معه رقابياً، ولكن بحذر بالغ. وبعد تفكك المنظومة الاشتراكية عام 1989 وقيام جمهورية تشيكيا صدرت مؤلفاته الكاملة بين 1991-1997 في 19 مجلداً عن دار نشر «خيال براغ»، وبلغ مجموع ما طُبع من مؤلفاته باللغة التشيكية حتى اليوم ثلاثة ملايين نسخة، كذلك تُرجم بعض مؤلفاته البارزة إلى 30 لغة، وكان أحد أسباب شهرته عالمياً تحويل روايته «قطارات مراقبة جيداً» إلى فيلم سينمائي نال جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 1967. كذلك أعيد اقتباس الرواية للسينما في الولايات المتحدة الأميركية عام 1971.

اعتمد هرابال في موضوعات رواياته وقصصه على أحداث من الحياة اليومية يتورط فيها أناس عاديون من دون أن تكون لهم سلطة على سير الأمور أو قدرة على استيعاب ما يجري. ويتسم أسلوبه بقدرة تعبيرية بصرية عالية، وبميل إلى الجمل الطويلة المتدفقة، إلى جانب حس فكاهي ساخر وساحر، يعتمد كثيراً على شخصية «الأحمق الحكيم» الذي تبدر عنه في اللحظات الحرجة أفكار في غاية العمق.

توفي هرابال في أحد مستشفيات براغ بعدما سقط من شرفة الطابق الخامس عندما كان يطعم الحمام البري على ما يبدو. وشك بعضهم في كون سقوطه انتحاراً وليس حادثاً، لا سيما أن الأسلوب ورد في مشهدين من أعماله.

من الرواية

أُسرع مباشرة إلى عملي، إلى جبل من الأوراق، كما لو كنتُ آدم، وهو يستلقي بين الأعشاب، ثمّ ألتقط كتاباّ. تنفتح عيناي على عالم غير عالمي؛ لأنني عندما أشرع في عملية قراءة، أكون في مكان معلوم ومختلف، أكون مع النصّ، نصّ مختلف ومذهل. عليّ أن أعترف أنني كنتُ أحلم، أحلم بأرض ما، بجمال عظيم. كنتُ في قلب الحقيقة. عشر مرّات في اليوم أتساءل أيّ إنسان غريب أنا؟! أيّ هدوء ينتابني وأنا أنعزل مع ذاتي وأهرب من نفسي؟! أذهب ناحية المنزل، أجوب الشوارع في صمت. في هدوء رهيب، أعبر والقطارات والسيارات والأرصفة في غيوم من الكُتُب التي جئتُ بها، وحملتُها في حقيبتي. أنا ضائع في أحلامي، أحياناً أجتاز الإشارات الضوئية؛ لأن حقيبتي مليئة بالكُتُب، وأخاف أن يستفسر أحد ما عن هويّتي، فلا أجيبه. أجوب الشوارع الصاخبة من دون أن أجتاز الضوء الأحمر. أجوبها من دون أدنى شعور. ولستُ قلقاً من ذلك، عندي شعور بنفسي، كما لو كنتُ كومة من الكُتُب المضغوطة. مقعد طيّار رائع، ضوء مندفع من الكارما، كما لو كان ضوء ثلاجة. نار أبدية، أحملها في حقيبتي. لذلك أنا أعود إلى منزلي مثل منزل محترق، أو زريبة. ضوء من الحياة ينسكب عبر النيران. النار التي تُولَد من الغابات الميتة، وتترك حزناً دفيناً، ينام تحت الرماد.