لما كانت الليلة الرابعة والثمانون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن ملوك الجن العشرة أحضروا لحسن عدداً من الخيول الطيارة، فأعطى الملكة نور الهدى والعجوز شواهي جوادين منها، كما أعطى كل من بقي من أهل المدينة جواداً، وزودهم جميعاً بكل ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب، وبعدما ودَّعت زوجته «منار السنا} أختها ومربيتهما العجوز وأوصتهما بالسلام على والدها وبقية أخواتها، انطلقت الخيول الطيارة بالفريقين، فسار بعضها قاصداً «جزائر واق}، وسار بعضها قاصداً مدينة بغداد.

ولم يزل حسن وزوجته ومن معهما مسافرين على ظهور تلك الخيل، وهم يواصلون النهار بالليل، إلى أن وصلوا بعد شهر كامل إلى أرض الكافور، فتلقاهم الملك حسون صاحبها بكل ترحيب وسرور، وأنزلهم في ضيافته معززين مكرمين بقلعة الطيور، وروى له حسن كل ما وقع له في رحلته، فتعجب غاية العجب، وهنأه ببلوغ الإرب، وقال له: والله يا ولدي إن هذه أول مرة أسمع فيها بوصول أنسي إلى «جزائر واق}، فالحمد لله على سلامتك، واكتمال سعادتك.

Ad

وبعد ثلاثة أيام، في الضيافة والإكرام، استأذن حسن في مواصلة السفر، فودّعه الملك حسون أحسن وداع، وزوده بكثير من الهدايا النادرة، والتحف الثمينة الفاخرة. وكانت الخيول الطيارة أخذت كفايتها من الراحة فسارت بهم مدة شهر آخر وهي تسابق الريح، ولا تكاد تقف لتستريح. وفي آخر الشهر وصلوا إلى مغارة عظيمة، أرضها من النحاس الأصفر، فلما رآها حسن أمر الخيول بالوقوف، ثم سأل زوجته: هل تعرفين صاحب هذه المغارة؟ أجابت بالنفي. فقال لها: صاحبها هو الشيخ أبو الريش الذي حدثتك عنه، ولولا فضله عليَّ، وعملي بوصية تلميذه الشيخ عبد القدوس عم أخواتي البنات الجنيات، ما استطعت الوصول إلى «جزائر واق}.

وفيما هما يتحدثان إذا بالشيخ «أبي الريش} خرج من باب مغارته، ووقف رافعاً إحدى يديه فوق جبهته، وقابضاً بالأخرى على لحيته، وما إن وقع نظره على حسن حتى عرفه وصاح مرحباً به، مهنئاً إياه على السلامة، ثم أنزلهم في ضيافته حيث أكرمهم كل الإكرام، وقصّ عليه حسن ما وقع له منذ فارقه، وكيف حصل على الطاقية المسحورة والقضيب المسحور، إلى أن تمكّن بواسطة ملوك الجن العشرة من التغلب على جيوش الملكة نور الهدى، ثم صفح عنها بعد أسرها، وأرجعها إلى مدينتها سالمة ومعها العجوز شواهي، ومن بقي على قيد الحياة من أعوانها.

تعجَب الشيخ أبو الريش غاية العجب، وأخذ يتأمّل الطاقية والقضيب ولحيته تهتزّ من فرط الطرب، وفيما هو كذلك إذا بهم يسمعون طرقاً على باب المغارة، فأرجع الطاقية والقضيب إلى حسن، وقام إلى الباب ففتحه، ثم عاد إلى ومعه الضيف القادم، فإذا هو الشيخ عبد القدوس تلميذ الشيخ أبي الريش، وعم البنات الجنيات أخوات حسن.

 

قصر الجنيات

لما كانت الليلة الخامسة والثمانون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ عبد القدوس فرح غاية الفرح بلقاء حسن. وبعدما سلم عليه، وهنأه على اجتماع شمله بزوجته وولديه، جلس يستمع إلى قصته، مدهوشاً مما وقع له في رحلته، ثم سأله أن يجرب استخدام الطاقية والقضيب أمامه، فأخرج حسن الطاقية ووضعها على رأسه فإذا به يختفي عن الأنظار، ثم خلعها فظهر من جديد. كل هذا والشيخ عبد القدوس والشيخ أبو الريش في عجب شديد ما عليه من مزيد، ثم ضرب الأرض بالقضيب، فانشقت وخرج منها ملوك الجن العشرة.

وقبلوا الأرض بين يدي حسن قائلين: لبيك يا سيد الحاكمين، مرنا بما شئت تجدنا لأمرك طائعين ولو شئت أن تتحكّم في رقاب ملوك الأرض أجمعين. فقال لهم: بارك الله فيكم وعليكم، أنني أحضرتكم لأني اشتقت إليكم، وكي أسألكم عما حدث للعفريت المسلم الذي كان معنا، فإنه والله قد خدمنا ونفعنا. فقالوا له: إنه الآن في ذلك المكان، الذي قصده من حيث كان، كي يعبد الله في أمان واطمئنان، فإذا شئت فأننا نحضره إليك وتراه الآن بين يديك. فقال لهم حسن: لا داعي لأن نشغله عن العبادة، كتب الله الحسنى وزيادة، ثم صرفهم شاكراً لطفهم وعطفهم، فانصرفوا واختفوا تحت الأرض.

ثم قال الشيخ عبد القدوس لحسن: يا ولدي إن الله مَنَّ عليك، وأقر عينيك بزوجتك وولديك، وعما قريب تصل إلى أخواتك البنات، فتبقى عندهن ما شئت في أفراح وسرور، ثم تتم رحلتك المباركة إلى بغداد، حيث تلقى والدتك وتعيشون جميعاً في خير وإسعاد، وعلى هذا لا حاجة إليك بعد الآن بالطاقية والقضيب، فاجعلهما من نصيبي أنا والشيخ أبي الريش، فهما نعم النصيب.

فكر حسن في الأمر قليلا، ثم قال له: لو طلبتما روحي ما ضننت بها عليكما، فالفضل في كل ما لقيته يرجع إليكما. ثم أعطى الطاقية للشيخ أبي الريش، وأعطى القضيب للشيخ عبد القدوس وقال له: أرجو أن تصحبني فيما بقي من رحلتي، فقال له: سمعاً وطاعة. وبعدما قضوا مدة في ضيافة الشيخ أبي الريش، ودعوه مستأذنين في الرحيل، ثم ركب حسن وزوجته جواديهما الطيارين، وأركبا معهما ولديهما الصغيرين. أما الشيخ عبد القدوس فصفر بشفتيه فإذا بفيل عظيم قد حضر بين يديه، فركبه وتقدمهم عليه، وهو يدلهم على الطرق السهلة والمسالك القريبة، إلى أن اقتربوا من قصر البنات الجنيات، فأنشد حسن هذه الأبيات:

لعل الله يجمعنا قريباً

فنحظى بالتلاقي والعناق

وأخبركم بقصة ما جرى لي

وما قاسيت من ألم الفراق

تقر بقربكم والله عيني

وتهدأ نار وجدي واشتياقي

خبأت لكم حديثاً في فؤادي

لأخبركم به عند التلاقي

أعاتبكم على ما كان منكم

عتابا ينقضي والود باقي

وما كاد حسن يفرغ من إنشاد الشعر، حتى بدا لعينيه جبل السحاب، ثم ظهرت قبة القصر الأخضر الذي تسكنه أخواته البنات الجنيّات، وكن في ذلك الوقت ينظرن من إحدى الشرفات، فوقعت عيونهن على الفيل الذي يركبه عمهن، ثم شاهدن الجوادين، اللذين يركبهما حسن وزوجته مع الولدين، وقالت البنت الكبرى: مَن هؤلاء الضيوف القادمون مع عمنا يا ترى؟ فقالت الأخت الصغرى: أنا بهم أخبر وأدرى، وقلبي يحدثني بأنهم أعز الأحباب، وبأننا سنلتقي بأخينا حسن وزوجته بعد طول الغياب.

الأخت الصغرى

وما أتمت كلامها حتى كان القادمون وصلوا إلى باب القصر، فلما تبينتهم أطلقت صيحة الفرح والنصر، ثم سارعت وأخواتها الى استقبال الضيوف الأعزاء، وتبادل الجميع العناق والقبلات فرحا باللقاء، ثم دخلوا إلى القصر حيث أقيمت الأفراح، وأديرت أقداح الراح، ورقص الجميع من فرط الطرب، والاغتباط ببلوغ الأرب، وكأنهم في عيد سعيد، لفرحهم الشديد، ثم قامت الأخت الصغرى فكررت معانقة حسن، وأنشدت تقول:

وما نظرت من بعد بعدك مقلتي

إلى أحد إلا وشخصك ماثل

وما غمضت إلا رأيتك في الكرى

كأنك بين الجفن والعين نازل

قال لها حسن: يا أختي إنك والله تستحقين أكثر من شكري، فإليك يرجع الفضل في جمع شملي بالملكة «منار السنا} أولاً وآخراً، وإني أدعو الله جل شأنه أن يتولى عني مكافأتك. ثم جلس بين أخواته وأخذ يروي لهن عجائب ما صادفه في رحلته إلى «جزائر واق}، وكيف حصل على الطاقية والقضيب المسحورين، وكيف أنقذ زوجته وولديه في آخر لحظة من القتل، ثم فروا جميعاً وهم يمتطون ظهور الخيل الطيارة، ولحقت بهم الملكة نور الهدى في الطريق ومعها جيوش لا يحصى عددها وعدتها، ولكن ملوك الجن العشرة خدام القضيب المسحور تصدوا لها بجنود أقوى من جنودها، فهزموا جيشها وأسروها، وأشارت العجوز شواهي بقتلها. ولكن منار السنا رق قلبها لها وصفحت عنها، وتولى ملوك الجن العشرة مهمة إعادتها الى مدينتها ومعها العجوز شواهي، ومن قدر لهم النجاة من أفراد جيشها.

لما فرغ حسن من كلامه، روى الشيخ عبد القدوس كيف قابله في مغارة الشيخ أبي الريش، وكيف خلع عليهما الطاقية والقضيب جزاء مساعدتهما له، ثم كرر له الشكر على ذلك كما شكرته أخواته البنات.

لما كانت الليلة السادسة والثمانون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن البنات الجنيات أخوات حسن، أبقينه في ضيافتهن عشرة أيام، هو وزوجته وولديهما وعمهن الشيخ عبد القدوس، ولما استأذنوا منهن في السفر بعد ذلك، ودعنهم أحسن وداع وزوَّدنهم بشيء كثير من تحف وهدايا لا تقدر بمال. ثم ركب الشيخ عبد القدوس فوق الفيل المسحور، وركب حسن وزوجته جواديهما الطيارين، وأمام كل منهما أحد الولدين، ومضى الجميع قاصدين بغداد، بعدما عانق حسن أخته الصغرى وكرر شكره لها على إخلاصها في خدمته، وفاضت عيناه بالعبرات، وأنشد هذه الأبيات:

ما الصبر للعشاق إلا بعيد

وما فراق الحب إلا شديد

وما الجفا والبعد إلا عنا

وما قتيل الحب إلا شهيد

ما أطول الليل على عاشق

مفارق صب شريد وحيد

راحوا يجدون في السير في البراري والقفار مدة شهرين إلى أن أشرفوا على مدينة بغداد، فاستأذن الشيخ عبد القدوس في الرجوع إلى وطنه، وواصل حسن وزوجته وولداه سيرهم إلى أن دخلوا المدينة بعد صلاة العشاء بقليل، فتوجه حسن إلى منزله، وطرق بابه الخلفي الذي من جهة الصحراء، وكانت والدته بنت له قبراً في المنزل عند ذلك الباب، واعتادت ملازمته بالليل والنهار، زاهدة في الطعام والمنام. لما سمعت الطرق على الباب، ظنت أنها توهمت ذلك لانشغال بالها بغيبة ولدها، وأخذت تبكي وتنشد هذه الأبيات:

بالله عودوا فإن العود مشكور

فالقلب من بعدكم والله مفطور

لئن سمحتم لأجفاني برؤيتكم

وبات ميت رجائي وهو منشور

فكم خطوب أتى من بعدها فرج

وكم تلا العسر إسعاف وتيسير

لما سمع حسن شعرها وبكاءها، انفطر قلبه جَزعاً عليها، ورفع صوته وناداها: يا أماه... افتحي الباب فأنا ولدك حسن. عندما سمعت صوته عرفته، وقامت وفتحت الباب، وما وقعت عيناها عليه، وعلى زوجته وولديه، حتى أغمي عليها من شدة الفرح، فأخذ حسن يقبل يديها، ويرش وجهها بالماء، حتى أفاقت، ثم أمضوا الليلة كلها في عناق وتقبيل، وقالت لها منار السنا: بالله يا والدتي اصفحي عني ولا تؤاخذيني بما وقع مني فقد كفاني ما لقيت بعد هربي من الأهوال والشدائد، إلى أن جاء حسن وأنقذني في آخر لحظة، ثم قصَّا عليها ما وقع لهما بالتفصيل، فتعجبت غاية العجب، وهنأتهما بالسلامة.

وفي اليوم التالي، غادر حسن منزله بعدما ارتدى حلة فاخرة، وتوجه إلى السوق فاشترى شيئاً كثيراً من الأثاث والحلي والملابس وغيرها مما لا يقدر على اقتنائه إلا الملوك، ثم اشترى قصوراً أخرى وبساتين، وعاش هو وزوجته ووالدته في أرغد عيش وأهنأه، إلى أن توفاهم الله، وسبحان الحي الذي لا يموت، وله الملك والملكوت.

سيف الملوك وبديعة الجمال

لما كانت الليلة السابعة والثمانون بعد الثلاثمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: يحكى أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك في مصر يسمى عاصم بن صفوان، وكان ملكاً سخياً جواداً، صاحب هيبة ووقار، وله بلاد كثيرة، وقلاع وحصون وجيوش، وكان له وزير يُسمى فارس بن صالح، وهم جميعاً يعبدون الشمس والنار من دون الملك الجبار الجليل القهار. صار هذا الملك شيخاً كبيراً، أضعفه الكبر والسقم والهرم، لأنه عاش 180 سنة، ولم يكن له ولد ذكر ولا أنثى، فصار بسبب ذلك في هم وغم ليلاً ونهاراً.

اتفق أنه كان جالساً ذات يوم على سرير ملكه، والأمراء والوزراء والمقدمون وأرباب الدولة في خدمته على عادتهم، ومنهم من له ولد أو ولدان، فقال لنفسه: كل هؤلاء مسرورون بأولادهم، وأنا مالي ولد، وفي غد أموت وأترك ملكي وضياعي وأموالي يأخذها الغرباء، ولا يبقى لي ذكر في الدنيا. ثم استغرق في بحر من الفكر، وبكى لكثرة توارد الأحزان والأفكار على رأسه، ثم نزل عن عرشه وجلس على الأرض يبكي ويتضرَّع.

لما رآه الوزير كذلك، صاح بالحاضرين من أكابر الدولة: انصرفوا إلى منازلكم حتى يفيق الملك مما هو فيه. وبقي هو حتى أفاق الملك، فقبل الأرض بين يديه وسأله: يا ملك الزمان ما سبب هذا البكاء؟ أخبرني بمن عاداك من الملوك وأصحاب القلاع، أو من الأمراء وأرباب الدولة حتى نكون كلنا عليه، ونأخذ روحه من بين جنبيه.

لم يتكلم الملك ولم يرفع رأسه، ثم قبل الوزير الأرض بين يديه ثانية وقال له: يا ملك الزمان أنا مثل ولدك وعبدك فإذا لم أعرف سبب غمك وهمك وجزعك، فمن ذا الذي يعرفه ويقوم مقامي بين يديك؟ فلم يتكلم الملك ولم يرفع رأسه.

وما زال يبكي وينوح ويتأوه، والوزير صابر ثم قال له: إن لم تقل لي ما سبب ذلك قتلت نفسي بين يديك من ساعتي. رفع الملك رأسه ومسح دموعه وقال: يا أيها الوزير الناصح، خلني بهمي وغمي، فما في قلبي من الأحزان يكفيني. فقال له الوزير: قل لي أيها الملك ما سبب هذا البكاء؟ لعل الله يجعل لك الفرج على يدي.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد