قنديل الأعمى
لا أظن أن هناك سخرية أشد من حال من يتشبث بكلتا يديه بقنديل مضيء في الظلام وهو أعمى! يحارب ويقاتل دون ذلك القنديل وعلى استعداد أن يقضي على كل من يحاول أن ينتزعه من بين يديه، في حين يصطدم هو بالجدران تارة ويتعثر بحجر الطريق تارة أخرى دون يعينه قنديله على تجنب تلك المشقة أو أن يقلل من نزف جروحه، هذا هو حال المثقف أو المبدع الذي لديه رؤية ولكنه لا يبصر من خلالها، وليس لديه أدنى استعداد للمشي على هُداها، ولكنه على استعداد لأن يخوض أشرس المعارك للذود عنها، فبالرغم من أن قناعته بتلك الرؤية تبدو وكأنها أشبه باليقين الذي يصل إلى حدّ الإيمان، فإن هذا الإيمان للتسويق الخارجي فقط، لا يعينه على شق مسافة خطوة في طريق حياته، ليس بالضرورة لأن ذلك الإيمان لا يستطيع فعل ذلك، بل لأن حامله يدّخره ربما إلى حين ميسرة أو ربما إلى حين جدل مع آخر يحمل إيماناً مختلفاً أو مضاداً، فتسمع منه ما يسر فكرك حول قناعته تلك، ويأخذك الحماس لأن توشك أن تؤمن بها بدورك ولكنك تفاجأ بأن من سوّقها لك لا يعمل بتلك القناعة وأن حياته تسير على غير نبراسها، وسفن أفعاله تجري على غير ما تشتهي رياح إيمانه، ويأخذك العجب أكثر عندما تعلم أنه لا يفعل ذلك من باب النفاق الفكري إذ إن قناعته تلك ينادي بها أمام الجميع وفي كل مكان سراً وعلانية، كما أنها ليست من باب النفاق الاجتماعي بأي شكل من الأشكال لأنها ربما كانت سبباً في خسارته كثيراً من الناس الذين جادلهم بها، فتوغل في حيرتك عند محاولتك تفسير ذلك، ولا تجد إجابة شافية لأسئلتك الموغلة في عتمة تيهك سوى أن الشخص المؤمن بتلك القناعة أضعف كثيراً من أن يتحمل مشقة العمل بها رغم قناعته التامة بها ويقينه غير المشكوك به، إلا أن قناعة ذلك الشخص في ضعفه هي أضعاف قناعته بما يؤمن به، هذه القناعة بالضعف والعجز لا تنتج في الغالب سوى الشعور بالخوف والجبن، فالبعض مثلاً يؤمن صادقاً بالحرية الشخصية للفرد ولكنك لن تسمع منه رأياً يعبّر عن ذاته خارج السرب، بل تجده في الغالب صامتاً إذا ما كان الرأي العام لا يوافق رأيه، إذ يتراءى له في تلك اللحظة ضعفه وعجزه في أن يكون حراً في فكره وسلوكه خوفاً من العواقب، ومع ذلك هو لا يتوانى ولا يتردد أبداً في التعبير عن مناصرته لتلك الحرية في أي مناسبة.مثل هذا الشخص يستحق السخرية السوداء كمثل ذلك الضرير الذي يحمل قنديلاً مضيئاً لا يستفيد من نوره ولا يمكن لقنديله ذاك أن يرشده لطريق الصواب.