كلما أراد د. ربيعة أبي فاضل الكفّ عن الكتابة، والاستراحة، وعزل الذات عما يحدث في فضاء هذا الكون، يعود ليجابه تحدّيات الداخل، والخارج، فيشتعلَ القلب كأن المعركة معركته، وكأن موت الأطفال، في الحروب، هو موته، وكأن الجهل الديني المسيطر على الحياة، والعقول، خصوصاً في دنيا العرب، بات يقضّ مضجعه، ويهدِّد طمأنينته.

ما زاده شغفاً بالشعر وحماسة وإصراراً على إكمال البناء ونسجَ رؤية متناغمة متكاملة، يقينه بأن الكلمة الشعريّة، بنورها، ودفئها، هي ملجأه وعزاؤه، ورجاؤه، في صقيع مجتمع، تخنقه النفايات، وتحرق الأبالسة غاباته، وتدير الأشباح سياساته، وتشوّه الباطنيّة والتناقضات، رُواقه وحياته.

Ad

«لا شيء غير الشعر، بعد الله، يمنحنا زماناً جديداً، وأفقاً آخر، وأحلاماً وانتظارات»، يقول د. ربيعة أبي فاضل ممهداً لكتابه «شيخ العزلة»، ويضيف: «لا شيء غير هذه الكلمة الحارة، غير المتوقعة، المفعمة بالرنين، والحنين، والحبّ، توقظ فينا حيويّة الصمت الخلاق، والإشاحة عن ثقافة ما حولنا، وسذاجة الساعين إلى جاههم، وثرواتهم، وحقارتهم، ولو على حساب البراءة والقيم، وروح الحقّ».

لا شك في أن الشعر يتّسع لقضايا الوجود الكيانيّة، ولشؤون الروح والميتافيزيقيا، من هنا يمكن اعتبار نص ربيعة أبي فاضل منفتحاً، لانهائياً على ما هو أبعد من الملحمي، والمأساوي، والغنائي، والفلسفي، وأبعد من التاريخ، والجغرافيا، والتصنيع الحربي، واستكشافات الفضاء، والدروع البشرية، وأبعد من كل همومنا، وأوجاعنا الذاتية، وأبعد من كل الفنون، والرحلات، والطموحات، وحالات الجنون الغنيّة بالدهشة، والروعة، والشعر!

يقول د. ربيعة أبي فاضل في هذا المجال: «وبعد، غريب أن يفتح المرءُ عينيه، تحت الشمس، ولا يبالي بجمال الشعر، وواحة الكلمة، والموسيقى، والنحت، والرقص، والتصوير، والتخييل، واللعب، والوجد، والاحتراق، والغياب، والحضور في النور... في فردوس ينبض مع القلب العارف، عطراً وحباً وحرية وتفرداً وطيراناً في أجواء تلوّنها أجنحة الودّ، وطيور الزهد. إنه سحر الشعر يكمن في سرّه».

عشق الحقيقة

قدَّم للكتاب الشاعر والمخرج المسرحي أدهم الدمشقي بكلمة مما جاء فيها: «في زمن تتكالب فيه المصالح والسياسات، وتتيح الأصوات من كلّ عتمة، وتتفاصح، ما فائدة قصيدة صوفية بعد، وأربابها ذُبحوا وصُلبوا؟ وشاعرنا يعود وحده ليرتقي الشجرة؟

هذه القامة العالية ومهابة الصوت صوتك، كيف تحلّقان في فضاء الشعر المعاصر الحديث وِسع الحضور والحبور وكمون السرّ، وانكشافاته؟ أو كيف تخفُقُ أجنحة التجربة عندك ولا توقف ثقافتك عفوية التعبير، وحلاوته وروحية المعنى ورُقيّه؟ أو ليس عشقك للحقيقة يكمن وراء كل هذه التجليات؟ وجعلك الخلاص تخطياً للفرديّة، ومسؤولية إنسانية تعمل على حضور الله في المجتمع؟

إنها صوفية لا ترمي إلى خلاص الذات فقط، إنما خلاص الجماعة، ولا تنكفئ على علاقة عموديّة أحاديّة بين الأنا الفردية والذات الكونيّة، أو تتخذ أهميّتها وحسب، من ارتقائيتها الروحية، بل أيضاً من حرارتها الإنسانيّة... تمثلاً بالصليب، عموديّ في لقاء الإنسان بالله، أفقي في لقاء الإنسان بأخيه.

حين أبحرت في «ألحان السكينة» أحاكيه لوناً ورسوماً، شككت في سرّي كيف له كل هذا الإيمان؟

وحين أوغلت في «نشيد مشرقي»، تراءى لي شاعرنا للمرّة الأولى معاتباً، فجدّفت سائلاً: هل عاد من ألحانه خائباً بعدما عرف أن الله أصمّ!

ثم اختفى شاعرنا، اختفى ليعود شيخ العزلة، وخيط سبحته الطويل يزداد خرزة مع كل تِلاوة، وصلاة. قصائد، في أزمنة القحط الروحي، والفراغ الفني والفكري!

قصائد لم أستلم معظمها باليد، لأن شيخها كان يخشى مرّات، طرق باب عزلتي وخلوتي، فيُعلّق القصيدة على بابي، ويرحل، وهو صاحب القول: «يقف المجد ببابي.. سائلاً هل يدخل.. حائراً هل يرحل..» وكثيراً ما رحل، ورحّلني في نصوصه، بين الأمل والخيبة والشكّ واليقين.

في إحدى قصائده، وقد رأيتها معلّقة على بابي، خُطّ في أسفلها «انتهى»، معلناً لي أنها قصيدته الأخيرة.

خفت كثيراً ثم همست: لا تصدّق شاعراً!

لم أصدّق شاعراً ولا هو صدّق خيبته، حينذاك، ثم عاد في إحدى القصائد الحميمة، فاتحاً لي جرحه، قال: يا أدهم دير بالك ع حالك!».