هذا هو الإصدار السادس عن دار النشر الموسيقية Naxos للبناني/ الفرنسي بشارة الخوري، حفيد الشاعر الأخطل الصغير. ولقد سبق أن عرضت له أكثر من مرة منذ إصداره الأول في مطلع عام 2002. وموسيقاه تستهويني لأسباب عدة، منها شخصية، لأني كتبت مقدمة لأول مجموعة شعرية أصدرها في بيروت مطلع السبعينيات، بطلب من أبيه الشاعر عبدالله الخوري، يوم كانت بيروت عاصمة الحرية في الثقافة والحياة العربيتين. ولأنه عربي، وأنا فاقد الأمل من تحقيق أدنى قدر من العلاقة الصحية بين الثقافة العربية وبين الموسيقى الكلاسيكية. ولأن موسيقى بشارة حداثية، لكنها لا تميل إلى التجريب والمغامرات التقنية. ولأن موسيقاه غنائية في التعبير عن مشاغل القلب، وتأملية في التعبير عن مشاغل العقل. ولأنها تقطف ثمار خبرة لا تخلو من أسى، ومن تطلع حزين للضوء. وهذا الإصدار الجديد توكيد لهذه الخصائص.درس الموسيقى في بيروت، ثم باريس، التي أقام فيها منذ عام 1979. ورغم أن دليل أعماله المعلن يضم مؤلفات من عام 1979، وهي تتجاوز الآن المئة بكثير، تحتل الأعمال الأوركسترالية منها النصف، إلى جانب دزينة من أعمال "موسيقى الغرفة"، وأعمال للبيانو تجاوزت المئة. إلا أن لبشارة أكثر من 100 عمل مبكرة وضعها بين 69 و1978، إلى جانب عدد من المجموعات الشعرية، التي لم أطلع عليها أيضا.
الاصدار الجديد يضم أربعة أعمال أوركسترالية. العمل الرئيس فيه هو Orages (عواصف)، ويمتد لقرابة ربع ساعة، تحت سطوة مزاج موسيقي قُلّب. وبالرغم من أن العمل ينتمي إلى نوع "القصيدة السيمفونية"، التي عادة ما تلاحق حكاية مبرمجة، إلا أن الموسيقي فضل تقلبات الطبيعة التي لا يحكمها ضابط، فسجل فيها بأناة ما تستثيره العواصف فينا من مخاوف، وترقبات. وبشارة، في كثير من أعماله السابقة، يتأمل الطبيعة بقلب حذر، متوجس وخائف. يُشعرك أن الانسان وسط مزاجها البالغ العنف قشة في ريح. حتى ليوحي لك بأن صباه الشعري الذي انتهى باندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وحساسيته الموسيقية التي بدأت وتواصلت مع جحيم الاقتتال، وخطَت بين الخرائب، قد جذّرا فيه خوفاً وريبة لا سبيل إلى الخلاص منهما. إلا أن الخلق الموسيقي كفيل بهذا الخلاص.العمل الثاني من نوع "القصيدة السيمفونية" أيضاً، وضعه تحت عنوان "فضاءات وشظايا". وهو رؤية شعرية أثيرة عند بشارة لرحيل في ليل. "رحيل غريب يعبر عالمنا مثل إضاءة برق تُنبئ بعاصفة في لحظة من سكينة محفوفة بالمخاطر". على حد تعبير كاتب المنشور المُلحق بالاصدار. ثم تليه "قصيدة ليلية"، وهي ضرب من التأليف مُشرع للتأمل الليلي، وعادة ما نجده على البيانو المنفرد، كعمل الروسي سكْريابِن، وليس بعيداً عن "ليليات" شوبان. عمل بشارة هنا يقرب من كونشيرتو الفلوت والأوركسترا، وضعه في ذكرى عازف الفلوت جان بيير رامبال.العمل في ثلاث حركات، يستغرق الفلوت المنفرد الحركة الأولى، وبه يستحضر المؤلف العازفَ الراحل في مسيرة تأمل حلمية، لا تخلو من غموض. في الحركة الثانية الأوركسترالية ندخل دراما تحيط موت العازف بمشاعر الألم، وهي، كما يقول بشارة الخوري عنها، "تحلّقُ تحت سحب أوربا لتُنهي رحلتَها في ميناء شرقي مُضاء بالشمس". ثم تعود الحركة الثالثة، بصحبة الفلوت والأوركسترا، إلى اللحن الهادئ التأملي مستوحى من "العطر الشرقي الخفي".في العمل الرابع "قصيدة غنائية" لصوت السوبرانو مع الأوركسترا، يستخدم المؤلف نصا من "قصائد تأملية" للشاعر الفرنسي لامارتين. العمل بالغ العذوبة والحرارة، يستعيد فيه أحدُنا الشحنةَ العاطفية للألماني ريتشارد شتراوس في عمله الخالد "الأغنيات الأربع الأخيرة". بشارة الخوري بالغ الحماس لشتراوس، وبالغ التأثر به. حتى إنه في هذا العمل يترك آلة الفايولين تنفرد بلحن يذكر بعمل شتراوس.حفلة كلاسيكية في عزلتك، لموسيقي عربي على السي دي، تمتد لخمسين دقيقة. متعة تمتد عناصرها لسمو الموسيقى، ولأسى بيروت، ولإضاءة شمس الشرق. إن مجرد كتابة اسم بشارة الخوري Bechara El- Khoury في موقع YouTube كفيل بتوفير متعة التعرف على هذا الموسيقي المتألق.
توابل - ثقافات
جديد بشارة الخوري الموسيقي
18-06-2017