ما قــل ودل: مأزق 2001 يفرض الرقابة البرلمانية على ديوان المحاسبة
في مقالي الأحد الماضي تحت عنوان "هل يستمر ديوان المحاسبة في التغريد خارج سرب الرقابة البرلمانية؟" قلت إن خضوع ديوان المحاسبة لمنظومتي الرقابة العامة والرقابة البرلمانية هو خضوع لمبدأ سيادة القانون في دولة قانونية، يخضع فيها الحاكم مثل المحكوم للقانون، وانحسار أي من الرقابتين عن أي جهاز من أجهزة الدولة معناه أن هناك جهازاً يعلو الدستور ويعلو هذه الدولة، مع أن كل السلطات وهذه الأجهزة قد خرجت من رحم الدستور.الخشية من دور سياسي للديوان
وقد اتصل بي أحد النواب السابقين الذين عاصروا صدور قرار مجلس الأمة في 26/ 12/ 2015 بشأن أحقية أعضاء البرلمان في توجيه أسئلة إلى الديوان، ليضيف إليّ معلومة بأن المجلس عدل عن هذا القرار الذي تناولته في مقالي الأحد الماضي حتى لا يشجع ذلك الأعضاء على توجيه أسئلتهم إلى الديوان بدلاً من الوزراء، فيصرف ذلك الديوان عن مهمته الأصلية في رقابته لتحصيل إيرادات الجهات الحكومية وإنفاقها لمصروفاتها في حدود الميزانية، وهي المهمة التي أناطها الدستور بالديوان، وهي ذات طابع فني تختلف كلية عن رقابة الأداء التي يمارسها أعضاء المجلس من خلال الأسئلة البرلمانية التي توجه إلى الوزراء، وهي رقابة ذات طابع سياسي، فيفقد الديوان حياده. وكان الديوان قد أشار إلى هذا الحياد في مذكرته المؤرخة 6/ 2/ 2006 التي قدمها إلى رئيس مجلس الأمة في اعتراضه على قرار المجلس بأحقية الأعضاء في توجيه أسئلة إلى الديوان. سؤال الديوان عن ممارساته والواقع أنني لم أقصد في مقالي السابق أن يوجه النائب سؤاله إلى الديوان عن الأمور الداخلة في اختصاص الوزراء، وأن عدول المجلس عن قراره من هذه الناحية يكون صحيحاً، إلا أن ما قصدته وأكدت عليه في مقالي السابق هو السؤال البرلماني الذي يوجه إلى الديوان فيما يمارسه من صلاحيات في إدارته لشؤونه وشؤون موظفيه، وفي ممارسته لصلاحياته؛ فقد لا يؤدي الديوان مهمته في الفحص والمراجعة بالكفاءة التي ينتظرها منه الجميع، أو قد يتأخر في إنجاز ما كلفه به المجلس من موضوعات، وقد يسيء استخدام سلطته في الفحص والمراجعة.وقد يقع من بعض أعضائه الفنيين أخطاء في الفحص والمراجعة أو مخالفة القانون أو إفشاء لمعلومات يجب أن تظل بطبيعتها سرية، فيحق لكل عضو أن يوجه إلى الديوان أسئلة برلمانية تتعلق بهذا الأداء، ولكن لا يجوز لمقدم السؤال أن يحوله إلى استجواب. وليس ثمة ما يمنع أن تكون هذه الممارسات محلاً لطلب مناقشة عامة إعمالاً للمادة 113 من الدستور، أو محلاً لتحقيق برلماني في أي من هذه الممارسات، بحكم إلحاقه بمجلس الأمة، وباعتبارها من الأمور الداخلة في اختصاص المجلس وفقاً لأحكام المادة 114 من الدستور، دون التذرع باستقلال الديوان، مثلما يتم التحقيق البرلماني في أعمال الهيئات والمؤسسات العامة التي تلحق بالوزراء، بالرغم من تمتعها بالاستقلال الذي كفلته لها قوانين إنشائها، مثلما يتمتع الديوان بالاستقلال الذي كفله له قانون إنشائه، بل لعلها تتمتع باستقلال مالي في ميزانياتها، وهو ما لا يتمتع به الديوان.رقابة الأداء حققت دوراً سياسيا للديوانوالوقع أن الدور السياسي للديوان بدأ منذ فترة طويلة في ممارساته على رقابة الأداء التي تخرج عن مهمته التي حددها له الدستور وقانون إنشائه، وقد لاقت هذه الرقابة قبولا واستحسانا وتشجيعا من بعض أعضاء المجلس، فاستمرأ الديوان هذه الرقابة، أملا في مكانة أكبر في المعادلة السياسية، وقد فات الديوان أن القضاء الدستوري قد قصر رقابته على الشرعية الدستورية دون الرقابة على ملاءمة التشريع أو ضرورته، كما قصر القضاء الإداري رقابته على مشروعية القرار الإداري دون التدخل في تقدير جهة الإدراة أو ملاءماتها، ولم يقلل ذلك من أهمية القضاءين وعلو مكانتهما في المعادلة السياسية، كما تنامى لدى الأعضاء الفنيين بالديوان الشعور بهذا الدور السياسي بعد المأزق الدستوري والسياسي الذي وقع عام 2001، ونتناوله فيما يلي: مأزق عام 2001وقد وقع المجلس والحكومة والديوان في مأزق عام 2001، عندما استخدم رئيس مجلس الأمة وقتئذ صلاحياته في عدم تجديد تعيين أحد الوكلاء المساعدين بالديوان، وأصدر مجلس الوزراء قراره بعدم التجديد له، إلا أن رئيس الديوان رفض الانصياع للقرارين بالرغم من اطراد العمل على تطبيق أحكام القانون رقم 61 لسنة 1982 الذي حدد مدة التعيين في الوظائف القيادية بأربع سنوات، يجوز تجديدها بناء على طلب الوزير المختص.وأصدر رئيس الديوان قراره باستمرار الوكيل المساعد في عمله انطلاقاً من حرصه على استقلال الديوان إلى أن يفصل القضاء بحكم نهائي في تظلمه، حسبما جاء في رسالة رئيس الديوان إلى الوكيل المساعد، محل عدم تجديده بالقرارين سالفي الذكر.المشهد الحضاريوأعترف إنصافاً بما كان يتحلى به رئيس ديوان المحاسبة الراحل براك المرزوق من شجاعة، وهو يخوض معركته السياسية في الدفاع عن استقلال الديوان في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية، فهو يرفض الانصياع لقرار أصدره رئيس مجلس الأمة الذي يمثل المجلس، بالرغم من أن الديوان ملحق بالمجلس، وهو يرفض الانصياع لقرار أصدره مجلس الوزراء، الذي يمارس رئيس الدولة من خلاله صلاحياته الدستورية، وهو مجلس يهيمن على مصالح الدولة طبقاً للدستور.وإن كل ما اتخذه مجلس الوزراء من قرارات للخروج من هذا المأزق السياسي هو قرار أصدره بالطلب من كل الجهات الحكومية عدم اعتماد الأوراق الواردة من ديوان المحاسبة، والتي تحمل توقيع الوكيل المساعد المذكور، وذلك لتلافي إشكالات قانونية أو مالية قد تترتب على ذلك الاعتماد.وأن الأطراف الثلاثة قد تعاملت مع هذا الموقف السياسي أو المأزق غير المسبوق في أي دولة عربية بحكمة واقتدار وحنكة سياسية بنقل الصراع السياسي حول استقلال الديوان إلى ساحة القضاء، وانتظار حكم القضاء في هذه المسألة، وقد ألف بين هذه الأطراف غاية واحدة هي ترسيخ مبدأ سيادة القانون وإعلاء كلمة القضاء باعتباره رمانة الميزان في هذا المشهد الحضاري.وإن رئيس الديوان فور صدور حكم محكمة الاستئناف برفض الدعوى القضائية المقامة من الوكيل المساعد للديوان محل قرار مجلس الوزراء بعدم التجديد، أمر بوقف صرف مخصصاته المالية، وأقصاه عن القيام بأعمال وظيفته، ثم أعاده إلى العمل عندما صدر حكم محكمة التمييز بإلغاء هذا القرار بعد صدور حكم من المحكمة الدستورية بعدم انطباق الأحكام المتعلقة بتأقيت مدة خدمة الوظائف القيادية بأربع سنوات، مع جواز تجديدها لأعضاء الديوان الفنيين الذين يستقلون بأحكامهم الخاصة بقانون إنشاء الديوان الذي يعصمهم من العزل إلا لسبب تأديبي. الرقابة البرلمانية تصبح ضروريةوأعتقد اعتقاداً راسخاً أن قيام مجلس الأمة ببسط رقابته البرلمانية على ديون المحاسبة في الحدود التي بيّناها قد أصبح ضرورة، بعد صدور حكم المحكمة الدستورية السالف الذكر، حتى لا يكون إلحاق ديوان المحاسبة بمجلس الأمة بما يخالف مقاصد المشرع الدستوري من هذا الإلحاق، وهو توفير استقلاله، إلى أن يصبح تحصيناً لجهاز من أجهزة الدولة من الرقابة والمحاسبة.