«تواصل اجتماعي» أم ساحة معركة؟
لقد أعطتنا الأزمة الأخيرة التي اندلعت بين السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر من جانب، وقطر من جانب آخر برهاناً جديداً على أن "السوشيال ميديا" صارت بمنزلة أداة قتالية شديدة الفعالية.في عام 1940، سقطت باريس في أيدي النازيين الألمان، عقب حرب خاطفة، رأى المؤرخون العسكريون لاحقاً أنها شهدت تنسيقاً عالياً بين سلاحي المدرعات والجو، فضلاً عن دعم جوهري من سلاح جديد، آنذاك، هو الإذاعة.وحين حاول الزعيم النازي هتلر التعبير عن أهمية دور الإعلام في مشروعه القتالي التوسعي، قال في كتابه "كفاحي": "إن دور حاجز النار الذي تنفذه المدفعية، ستقوم به في المستقبل الدعاية، التي ستعمل على التحطيم المعنوي للخصم قبل أن تبدأ الجيوش عملها".
وقد كان الزعيم السوفياتي الشيوعي نيكيتا خروتشوف أكثر وضوحاً في ذلك؛ إذ قال بدوره: "الصحافة سلاحنا الفكري والأيديولوجي، فإذا كان الجيش لا يستغني عن السلاح في القتال، فإن الحزب الشيوعي لا يستطيع القيام بأعماله في الميدان الفكري والأيديولوجي بغير سلاح الصحافة".كانت تلك مقدمة تاريخية مبكرة نسبياً للدور الذي سيؤديه الإعلام لاحقاً في مضمار الحرب وصراعات الأمم، وهو الدور الذي جاءت الديمقراطيات المنتمية إلى ما سُمي "العالم الحر" لتؤكده وتشدد على أهميته. لكن التطورات التي طرأت على المجال الاتصالي عالمياً، خصوصاً مع اكتشاف "الإنترنت"، وما تلاه من سطوة "وسائط التواصل الاجتماعي" (السوشيال ميديا)، جعلت ذلك الحدس المبكر بمنزلة السياق التاريخي لظاهرة لم تتوقف عن التطور، حتى أضحت تلك الوسائط الجديدة سلاحاً رئيساً في المعركة، وليست مجرد عامل دعم ومساندة.تقول الفرضية التي يطرحها الباحث الأميركي "توماس نيشن" Thomas Nissen، في كتابه "تسليح السوشيال ميديا" The Weaponization of Social Media، الصادر عام 2016، إن تلك الوسائط الجديدة باتت "تحكم السياسات العالمية، وأعادت تشكيل آليات التواصل المصاحبة للنزاعات والحروب، وتحولت سلاحاً رئيساً في المعارك".ليس هناك من دليل على قدرة "وسائط التواصل الاجتماعي" على إعادة تشكيل آليات التواصل السياسي سوى ما ظهر في مواكبة الانتخابات الأميركية والفرنسية الأخيرة من تصاعد لدورها وتأثيرها الكبير في مسار عملية التنافس السياسي.لقد تم تطوير مصطلح "تويبلوماسي" Twiplomacy، للدلالة على الدور الذي بات يؤديه موقع التغريدات الشهير "تويتر" في حمل رسائل السياسيين والدبلوماسيين خلال الاستحقاقات السياسية والصراعات وعميات بناء الصورة الذهنية، وكانت أهم تجليات هذا الدور واضحة في لجوء الرئيس ترامب لهذا الموقع تحديداً، ليصبح أكثر الوسائل التي يتبعها في التعبير عن نفسه، خلال عملية ترشحه، وغداة تنصيبه رئيساً.لكن معركة سقوط الموصل، التي جرت وقائعها المثيرة في يونيو من عام 2014، ما زالت تمثل البرهان الأوضح على الدور المتصاعد لـ"وسائط التواصل الاجتماعي" في حسم عمليات القتال. لقد نجح نحو 1500 مقاتل من "تنظيم الدولة الإسلامة" (داعش) آنذاك، في احتلال واحدة من أكبر محافظات العراق، في معركة خاطفة لم تستغرق سوى أربعة أيام، وهي المعركة التي عرفنا بعدها أن "السوشيال ميديا" كانت أحد أهم أسلحتها الاستراتيجية.لقد حطمت "السوشيال ميديا الداعشية" آنذاك قوة نظامية يبلغ عديدها 25 ألفاً من الجنود والضباط المدربين والمسلحين تسليحاً جيداً، ودفعتها إلى الانسحاب والتخلي عن محافظة الموصل، بسكانها البالغ عددهم نحو مليوني نسمة، وترك عتادها غنيمة للغزاة، الذين حصلوا على أنساق تسليح ضخمة متكاملة؛ من بينها أكثر من 2300 مدرعة حربية من طراز "همفي".كيف تحطمت القوة العسكرية النظامية التي تحمي الموصل؟ وأين ذهب آلاف الجنود والضباط المكلفين بحمايتها؟يجيب القائد الأعلى لقوات محافظة نينوى، والمسؤول مباشرة عن الدفاع عن الموصل، آنذاك، اللواء مهدي العزاوي، عن هذا السؤال لاحقاً، بقوله المقتضب: لقد هربوا.عندما حاول الخبراء والمحللون المختصون تحليل دوافع هروب تلك القوة المدججة بالسلاح، وترك المدينة لقمة سائغة في أيدي الغزاة "الدواعش"، تبين لهم أن "عمليات قصف مباشرة ومركزة عبر (السوشيال ميديا) دفعت آلاف الضباط والجنود إلى الهرب، بعدما أصابتهم بالهلع، وقوضت روحهم المعنوية، وأغرقتهم في محيط من الأخبار المضللة والأكاذيب". استطاع "داعش"، عبر آلاف المنصات التي تعمل لحسابه على "وسائط التواصل الاجتماعي"، أن يحسم معركة الموصل، كما حسم عددا من المعارك والمنازلات، حتى بات هذا التنظيم "مدينا لـ (السوشيال ميديا) في وجوده ونجاحه".سحب "داعش" نحو 30 ألف مقاتل أجنبي من أكثر من مئة دولة إلى الأراضي التي يسيطر عليها في سورية والعراق عبر آليات تجنيد مقننة يتبعها من خلال منصاته على "وسائط التواصل الاجتماعي"، كما يقول "جيه. بيرغر" زميل برنامج جامعة جورج واشنطن لدراسات التطرف، الذي استطاع أن يحصي 40 ألف تغريدة يستطيع التنظيم أن يطلقها يومياً، عبر نسق كامل من المنصات التابعة له على هذا الوسيط الفعال.يستخدم "داعش" تلك الرسائل، التي ينوب عن أعضائه ومؤيديه جميعاً في بثها عبر "تطبيق" تم تطويره لهذا الغرض، في شن معركة متكاملة، كما يسخر بقية أدوات تلك الوسائط لتطوير استراتيجيته التجنيدية والدعائية والقتالية. إن تلك الوسائط لا تعزز الصدام حول الروايات المختلفة فقط، ولا تبث الأيديولوجيات الخبيثة فقط، لكنها أيضاً وسعت نطاق الحرب، وعمقت جبهتها، وأطلقت مداها الزمني، وجعلت مدى "نيرانها" أوسع من أن يُقيد. لقد منحتنا "وسائط التواصل الاجتماعي" مزايا فريدة، لكنها مع ذلك تحولت سلاحاً كاملاً يمكن أن يقوض أمننا، أو يعمق أزماتنا وخلافاتنا، وهو أمر ستكون له عواقب وخيمة.وفي الأزمة العربية- العربية الأخيرة، بدا واضحاً أن "السوشيال ميديا" أدت دوراً تأجيجياً، وأن بعض الحكومات المنخرطة في الصراع استخدمتها على نحو سيئ، عبر تسخير ميليشيات إلكترونية، عملت بدأب، على مدار الساعة، على تشويه الحقائق، واختلاق الوقائع، وإثارة الكراهية، والتحريض. وإضافة إلى ذلك فإن الجمهور المتفاعل مال في معظمه إلى توسيع رقعة الخلاف عبر أدوات "التواصل"، التي بدا أنها تحولت أدوات للفرقة وتعميق النزاع. * كاتب مصري
«وسائط التواصل الاجتماعي» منحتنا مزايا فريدة لكنها أصبحت سلاحاً يقوض أمننا