هل يتجه الأميركيون تدريجياً إلى الانفصال؟
ينفصل الأميركيون بوتيرة تزداد سرعة إلى مجموعات متناغمة ثقافياً وعقائدياً، إذ شهدنا الأسبوع الماضي حدثين معبرين (أحدهما بسيط والآخر أكثر تأثيراً) يكشفان تفاصيل كثيرة عن حالة حياتنا الوطنية، لنبدأ بالحدث البسيط، فخلال مناظرة حول محكمة الأحداث في سياتل، أشار أحد أعضاء مجلس المدينة إلى «أصدقائه الجمهوريين» كرمز للتأييد الواسع لفكرة أن سياسات الاحتجاز تحتاج إلى تغيير، لكن زميلته كشاما ساوانت ردت بكل فخر أنها لا تملك أي أصدقاء جمهوريين. فهلل لها الحضور. صحيح أن هذا حدث عابر إلا أنه يعكس واقعاً أكبر، إذ تعمل ولاية كاليفورنيا على اتخاذ سلسلة من الخطوات السياسية التي لا ترسّخ مكانتها كمعقل تقدمي فحسب، بل تدفعها أيضاً نحو تبني سياستها الخارجية الخاصة، فبعدما أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ سارع حاكم كاليفورنيا إلى ملء الفراغ، إذ تنادي كاليفورنيا اليوم بتعاونها مع الصين في محاربة الاحتباس الحراري.بات انقسامنا السياسي الوطني اليوم متأصلاً إلى درجة أن المناظر الحقيقية الوحيدة تدور راهناً حول طبيعة صراعنا الثقافي، والسياسي، والديني، فهل نخوض حرباً ثقافية أكثر أو أقل تقليداً؟ وهل نواجه حرباً أهلية باردة؟ وإذا لم تنعكس هذه التوجهات فلن يعود للانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين أي وجود.
لنتناول أولاً الانقسام السلبي، فقد سبق أن كتبتُ عن هذه المسألة إلا أنها تستحق التكرار، حيث يميل الأميركيون إلى الانتماء إلى «قبيلتهم» السياسية ليس لأنهم يؤيدون أفكارها بل لأنهم يمقتون خصومهم.ففي نهاية السنة الماضية نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» سلسلة من خرائط التصنيف تُظهر بالتحديد كيف يمكن لبرنامج أن يصبح رائجاً من دون أن يخترق شرائح كبيرة من المجتمع، لنتأمل أحد برامجي المفضلة: Game of Thrones الذي تتركز شعبيته في المدن الساحلية الزرقاء الداكنة، ولا يشكّل هذا مفاجأة بالنسبة إلي كأحد سكان مناطق تينيسي الريفية، فأنا أواجه صعوبة في العثور على مَن يشاهد هذا البرنامج، فكم بالأحرى مَن يهتم كفاية ليغوص عميقاً في أفكار ويستروس؟ وإن كنت تشاهد Game of Thrones، فتتابع بالتأكيد The Daily Show وModern Family. وهل تكره سلسلة جورج ر. ر. مارتن المذهلة؟ إذاً تفضل على الأرجح Duck Dynasty. إذا جمعنا كل هذه التوجهات معاً نلاحظ السبب وراء «إضفاء طابع سياسي على شتى المسائل»، والسبب سهل: يُشكّل هذا عادةً الدرب الذي نواجه فيه المقاومة الأقل، فضلاً عن أنه يمنح الناس إحساساً بهدف أهم. عندما تعيش، وتعمل، وتتكلم مع أناس يمكلون التفكير ذاته، فلا شك أن التعابير المشتركة عن وجهات النظر المتبادلة ستتسرب إلى الرياضة، وسياسات الشركات، وحتى الدردشات حول أفلام الأبطال الخارقين. أمام الأميركيين خيارات عدة إلا أن الملايين لجؤوا إلى مجموعات منغلقة عقائدياً، فلمَ لا يواصلون توسيع هذا الخيار، متخطين عالمَي السياسة والدين؟تنشأ الحرب الأهلية عندما تطغى الرغبة في الوحدة والسيطرة على الرغبة في الانفصال والحرية الشخصية في تحديد المصير، وتُعتبر الحرب الأهلية الأميركية مثالاً تقليدياً، فقد كثرت آنذاك أسباب الانفصال، والاختلاف الثقافي بين الشمال والجنوب كان كبيراً إلى درجة تبدو معها الانقسامات العسيرة بين الجمهوريين والديمقراطيين بسيطة، لكن الشمال رفض، فسعى أولاً إلى توحيد الولايات الجنوبية ومن ثم تحويلها، وفي المقابل لو أن أسكتلندا صوتت للخروج من المملكة المتحدة، فهل كانت إنكلترا ستحشد قواها رداً على ذلك؟ كلا، اقتربت المملكة المتحدة كثيراً من انفضالها الوطني الخاص مع تفكك اتحاد أقدم من الجمهورية الأميركية بأجيال، وهنا ينشأ سؤال أميركي جوهري: فيما نمضي قدماً في عملية «تصنيفنا الكبير» هذه، هل تتغلب الرغبة في الانفصال على الرغبة في السيطرة أم أننا نختار التسامح عوضاً عن ذلك؟تبنَّ عقلية الحرب الأهلية ولن تحقق أي هدف على الأرجح غير تسريع الانفصال المحتمل.الجهود للسيطرة عقيمة وتخلّف شعباً يشعر بالمرارة باستمرار ويزداد ميله إلى المعاقبة مع كل عملية انتقال للسلطة الرئاسية، ولكن ثمة أمل في السعي لتبني التسامح، فقد صُمم دستورنا للسماح لمواطنينا بحكم أنفسهم، حامياً في الوقت عينه الحرية الفردية ومؤيداً الدفاع المشترك، وقد طوِّر هذا الدستور ليتقبّل الاختلافات العميقة من دون أن يفرض على الولايات أو الأفراد التخلي عن أقوى قناعاتهم، فيمكننا إذاً أن نعيد اكتشاف هذه الفدرالية أو نسلك في النهاية مساراً ثالثاً: نختار الانفصال.*ديفيد فرانش* «ناشيونال ريفيو»