«أغرار»
لعل التساؤل الأول، الذي يخطر في البال حين الانتهاء من قراءة رواية "أغرار" لناصر الظفيري، هو: من هم الأغرار المعنيون في الرواية؟ ولماذا جاءت الكلمة جمعا لا مفردا؟ بمعنى أن هناك أكثر من "غِر" يافع لا تجربة له في سياق الرواية، أو "غِر" لا يفطن للشر ويغفل عنه – كما جاء في شرح كلمة "غِر" في "لسان العرب" - وجمعها "أغرار".ولو أخذنا بالمعنى الشمولي المجازي للكلمة، لوجدنا أن في الرواية عدداً من "الأغرار" الذين غررت بهم الظروف، أو غررت بهم أهواؤهم ونزعاتهم ورؤيتهم الخاصة للحياة وكيف يمكن أن تُعاش. إنهم شخوص لا مجال لديهم للمثالية أو لمنطق العيش المهادن لما هو اعتيادي ومألوف، اللهم إلا مثالية الامتثال لرغبات النفس الأمارة بالتطرف والجنوح. فالأب يشتط في اتخاذ التدابير التي تكفل له الأخذ بثأر ابنه "يحيى" الذي قُتل غيلة، ويركب في سبيل ذلك المركب الصعب وإن كانت التضحية بحياة سوية لابن آخر وهو "إسماعيل"، الذي يرهقه إرهاقاً في التدريب والإعداد والقسوة المبرحة ليكون أهلاً لأخذ الثأر من قاتل أخيه. و"إسماعيل" لا يفعل شيئاً غير الاستجابة والامتثال لهذا الدور باستسلام يبهظه فتوته ومصيره اللذين كانا في مهب الريح. أما الدكتورة الطبيبة "ضحى" سليلة الأسرة الممزقة والتنشئة المضطربة فقد ارتأت أن تعيش حياتها بمقاييسها الخاصة، ناقمة على أعراف مجتمع لا تنتمي إلى منظومة عاداته وتقاليده. وحين رأت "إسماعيل" مسجى على طاولة المعاينة بعد تعرضه لحادث مروري أثناء سعيه لتنفيذ الثأر، وجدت فيه ضالتها وخامة متاحة للإغواء ولتنفيذ مخططها في انتقاء ذكر فتيّ يصلح آلة مؤقتة للجنس والإنجاب. ثم تتسع دائرة "الأغرار" لتنسحب على شخصيات أخرى في سياق الأحداث، فتشمل "عبير" صديقة "ضحى"، و"سلوى" الفتاة التي أغرم بها "يحيى"، وكانت السبب في حتفه، ثم شقيق "سلوى" القاتل، وحتى رفاق "إسماعيل" في المعسكر التدريبي مثل "الأشيب" وأقرانه... إلخ. وهكذا يجد القارئ نفسه إزاء ثلة من "الأغرار" الفعليين من الذين تنطبق عليهم الصفة بجدارة.
وهكذا تدور الأحداث بين مجموعة من الأغرار المرتهنين للحظة، وما تمليه عليهم من شروطها، وكأنهم شخوص في مسرحية عبثية، أو بالأحرى أشباح مؤقتون مرتهنون لحياة عبثية بلا قيمة، يمكن مقايضتها بموت سهل بلا ندم. وهذا ما يحصل إذ يموت "يحيى" غيلة في لحظة تافهة، ويموت الأب حسرةً وضعفاً، وتموت "ضحى" و"عبير" برصاص "إسماعيل" وهما نائمتان! أما من استمر في العيش منهم فهو عيش أشبه بالوهم. فإسماعيل بعد حصوله على طفله من ضحى يراه – في خياله – متقمصاً روح يحيى القتيل، بل يؤمن بذلك إيماناً قاطعاً، والقاتل بات يقضي حياته متخفياً خوفاً من الانتقام، و"الأشيب" يهرب إلى جهة مجهولة ويظل مجهولاً بقية الحكاية... إلخ. وهكذا تضعنا الرواية في مشهد أقرب إلى الفانتازيا والإثارة السينمائية.لكن يبقى نَفَس الفن واضحاً بين تلافيف الحكاية، ومدعوماً بحس شعري وقدرة على نسج خيال أبعد مدى من واقعية الأحداث الفجة وقسوتها. فقد اشتغل الكاتب على رؤية شعرية موازية، تمثلت في الاندياح مع الطبيعة والطير والحقول وفسحة الخضرة وتقلبات الأنواء، وسفر الأرواح مع هذا الطقس المتخم بالمعنى، مما ينفحها حياة روحانية موازية لفجاجة الواقع وغلظته.