الدرس الأول الذي تعلمه عبد الفتاح القصري في «فرقة الريحاني»، حرص صاحبها وبطلها الأول على ألا يكون في فرقته نجوم رئيسيون، وممثلون ثانويون، بل توزيع الأدوار وفق ما يناسب كل ممثل من شخصيات المسرحية، ويضع إلى جانب البطل شخصيات متنوعة يأتي بها من مخزون الكوميديا الشعبية مثل «التركية المتغطرسة، اليوناني الساذج الذي يتحدث العربية بشكل مكسر، والتاجر البلدي المتفاخر»، وهي شخصيات شبه دائمة في المسرحيات، يعتمد عليها الريحاني في انتزاع الضحكات من الجمهور، إضافة إلى رسم مواقف قائمة على سوء الفهم، وهي من الوسائل الرئيسة التي يعتمد عليها نجيب وبديع للإضحاك الهادف، مستخدمين عنصر الشخصية، عبر اختيار شخصية أو أكثر في المسرحية للتنكر، أي تغيّر صورتها الرئيسية إلى صورة أخرى ثانوية. هذا التحول في صورة الشخصية لا تخفيه أحداث المسرحية عن الجمهور بل تتم مكاشفته به ليشعر بتفوقه في كم المعرفة حول شخصيات المسرحية، وبذلك يضحك الجمهور لجهل الشخصيات بالحقائق، فضلا عن استخدام مواقف متشابكة، تتصل مع بعضها البعض في حبكة معقدة، لإثارة الضحك، عبر كشف الجمهور عنصر المفارقة في المواقف التي تقوم على سوء الفهم والخطأ، وهو ما فعله الريحاني وبديع في مسرحية «ماحدش واخد منها حاجة» التي تدور فكرتها حول التضحية من أجل الآخرين، حتى لو كان ذلك على حساب شخصية المضحي.
كوميديا مبتكرة
شارك في بطولة المسرحية إلى جانب نجيب الريحاني، زينب صدقي، ستيفان روستي، حسن فايق، حسين رياض، محمد كمال المصري «شرفنطح»، عبد اللطيف جمجوم، وأسند الريحاني إلى عبد الفتاح القصري شخصية «بهجت»، وهي تنطبق عليها فكرة التنكر أو التحول من شخصية إلى أخرى، أمام الجمهور، من دون علم بقية شخصيات المسرحية، فتضطره الظروف إلى أن يتحول من «درويش» إلى مساعد لدى «عرفة الحانوتي»، الذي يجسد دوره محمد كمال المصري، وما ينجم عن ذلك من سوء فهم، يفجر مواقف كوميدية، وهو ما حدث بالفعل، فأدى دور «الدرويش» بطريقة جديدة بعيداً عن الصورة التقليدية التي اعتادها الجمهور، فانتزع ضحكات الجمهور، خصوصاً عندما وجد عبد الفتاح نفسه يجمع في حواره بين اللهجة العامية مضمناً إياها مفردات من العربية الفصحى، استخدمها في غير موضعها من الحوار، مع أسماء الإشارة مثل «هذا وهذه وهؤلاء» بشكل معكوس، يؤنث المذكر، ويذكر المؤنث، ثم ازداد الضحك، عندما تحوّل عبد الفتاح من شخصية «الدرويش» إلى شخصية مساعد «الحانوتي» مع استخدام المفردات نفسها، ما شجعه على تجاوز الحوار المكتوب له، وكلما ضحك الجمهور خرج عبد الفتاح أكثر فأكثر على النص.كان الجمهور استقبل عبد الفتاح لدى الدخول إلى المسرح بفتور، باعتباره ممثلا مغموراً غير معروف بالنسبة إليه، لكن في نهاية العرض قدّم تحية حارة له ما أسعد نجيب الريحاني، وأكد صدق حدسه، لكن كان لا بد من أن يلفت نظر عبد الفتاح إلى أمر مهم:= مبروك يا عوبد كنت كويس أوي النهارده.. وعرفت إزاي تضحك الناس * الله يبارك فيك.. البركة فيك يا أستاذ الأساتذة = في حاجة لازم نتفق عليها* تحت أمرك يا أستاذ اتفضل= بص بقى.. زي ما أنت شايف كده أنا بحب الناس اللي بيشتغلوا معايا ينجحوا ويثبتوا نفسهم على خشبة المرسح.. * ونعم الأخلاق الحميدة = لأني بأعتبر نجاح كل واحد في الفرقة نجاح ليَّ أنا شخصيا* ونعم السجايا القويمة = يا دي الوقعة المهببة.. يا سيدي أصبر عليّ أكمل كلامي.. أنا بس بدي أقولك إننا ممكن نتفق على الإفيهات اللي أنت عايز تقولها في دورك.. وتتدرب عليها مع الممثلين اللي قدامك في البروفة اللي بنعملها كل يوم الصبح.. بحيث يكون كل شيء بيتم على المرسح في العرض بالليل متفقين عليه* وجب.. اعتبره حصل= يا أخي كلامك ولهجتك يقولوا إنك مش ممكن تكون درست في الفرير أبدا* عيب أنا ما أكدبش أبدا.. تحب أ....= لا لا ماحبش.. أنا مصدقك.. بس تعمل اللي اتفقنا عليه.شعر عبد الفتاح القصري، بأن انضمامه إلى فرقة الريحاني بهذه الصورة، وهذا الحديث الذي دار بينه وبين الريحاني، ثأر لكرامته كممثل، التي نال منها جورج أبيض، فقرر التركيز في عمله مع الفرقة، وإخراج كل طاقته في المسرح. أكمل مع الفرقة تقديم مسرحية «ماحدش واخد منها حاجة»، التي حققت نجاحاً وثبت من خلالها قدميه كممثل كوميدي من طراز خاص، ما جعل نجيب الريحاني يتأكد من حسن اختياره له، ويتمسك به في فرقته، فقدم معها مسرحيات كوميدية، اشترك الريحاني مع بديع خيري في كتابتها، وعُرضت بالتتابع بين 1926، و1927. تنوعت ادوار عبد الفتاح في هذه المسرحيات، فأدى في «جنان في جنان» دور تاجر يخسر أمواله في البورصة، ويصاب بالجنون، ثم دور زوج مخدوع في مسرحية «مملكة الحب»، ودور تاجر موبيليا في «الحظوظ».على الرغم من ارتفاع ثمن التذاكر، كان المسرح يمتلئ كل ليلة بالمُشاهدين، ومعظمهم من المصريين الأثرياء والأوروبيين، ليس لمُشاهدة «كشكش بك» فحسب بل لِيستمتعوا بِمشاهدة العروض الراقصة، بعدما استعان الريحاني بممثلة استعراضية أرمنية تدعى «كيكي» لسد الفراغ الذي تركته بديعة مصابني.عقب انتهاء الموسم الأول، قام الريحاني وفرقته برحلة إلى بعض المصايف، وفيما كانت الفرقة تقدّم عروضها في مدينة «رأس البر» فوجئت بليلة 23 أغسطس 1927، بعدم وجود جمهور في المسرح، وعندما استقصى الريحاني الخبر، علم بوفاة الزعيم سعد باشا زغلول، وقرار المصطافين السفر إلى القاهرة للمشاركة في تشييعه، عندها أعطى الريحاني الفرقة إجازة يومين إلى حين عودة المصطافين، غير أنه فوجئ بالقصري يستعد للسفر:= على فين يا أخينا* نازل مصر دلوقت= كده مع نفسك؟* لا ما أنا كنت هأقولك= ونازل مصر ليه؟* وده برضه سؤال يا أستاذ.. أنت شايفني مش مصري ولا وطني= يعني أنت اللي مصري ووطني لوحدك وإحنا ولاد ستين في سبعين.. سعد باشا له أفضال عليّ أنا شخصياً.. لكن أنا قلت إننا مش ممكن هانلحق الجنازة* إحنا لو مشينا دلوقت.. هانصبح في مصر إن شاء اللهلم تعد الفرقة إلى رحلاتها الصيفية، خصوصاً أن الصيف أوشك على الانتهاء، فقرر الريحاني تقديم العروض نفسها في القاهرة، غير أن الإيرادات استمرت في الهبوط، وفي نوفمبر، من العام نفسه، قدم له أمين صدقي «كوميديا فارس» بعنوان «يوم القيامة» لِيفتتح بها الموسم الشتوي، لكن بعد البروفات، اكتشف الريحاني أنها لن تصلح مع الجمهور في هذا التوقيت، فاستبدلها بالمسرحية القديمة «الحظوظ» ليتمكن هو وخيري من كتابة مسرحيَة جديدة، وجاءت بِعنوان «عشان بوسة».بدأ عرض المسرحية في الثالث من ديسمبر 1927، وأسند الريحاني إلى القصري دور «ابن بلد» يوقع بالسيدات، فحققت المسرحية نجاحاً، وقدم بعدها مسرحيتين من لون الفارس هما: «آه من النسوان» عرضت منتصف فبراير 1928، وأدى فيها عبد الفتاح دور عاشق يقع في مشاكل بسبب الحب. رغم تكوينه الجسماني، وملامحه البعيدة عن الرومنسية، إلا أنه برع في الدور، وقبل نهاية أبريل من العام نفسه، قدمت الفرقة مسرحية «ابقى اغمزني» وأسند فيها الريحاني دور «معلم صاحب مقهى» إلى عبد الفتاح، فبرع في الدور بشكل غير عادي. مع أن عبد الفتاح نجح في الأدوار كافة التي أسندت إليه، إلا أن نجيب الريحاني لاحظ أنه يبدع أكثر في أدوار «المعلمين» وأولاد البلد، فراعى ذلك في كتابة المسرحيات الجديدة مع بديع خيري، ووضع أدواراً ملائمة له، بل فوجئ عبد الفتاح بأن الريحاني حفظ مفردات يستخدمها القصري، ويكتبها له من خلال الأدوار التي يسندها إليه.بعد انتهاء الموسم الشتوي، ورُغم ما حلَّ بالريحاني من إرهاق، لم يستطع البقاء فترة الصيف من دون عمل كونه كان في أشد الحاجة إلى النُقود، وسُرعان ما انتقل بِفرقته إلى «الفانتازيو»، وهو مسرحٍ مكشوفٍ في الجيزة. لم يكن مسرحاً مثاليا بالنسبة إلى الريحاني وفرقته، لكنه يمكن أن يؤدي الغرض في هذه الظروف، إذ يُوجد مقهى داخل المسرح، يستطيع فيه المُتفرجون مُشاهدة مسرحيَّات الريحاني الطويلة بِثمن كوب «جعة»، وأثناء الاستراحة بين الفصول، يمكنهم الرقص على أنغام إحدى فرق «الجاز».جمهور خاص
على مسرح «الفانتازيو» أعاد الريحاني تقديم مسرحية «آه من النسوان» التي يجسد فيها القصري دور عاشق يقع في مشاكل بسبب الحب، فنجح فيه، لكنه لاحظ أنه كلما دخل إلى خشبة المسرح وقال جملة، حتى لو لم تكن مضحكة، يصله صوت نسائي يضحك ضحكة ناعمة، وتتكرر الضحكة، كلما خطا أو تنقل فوق خشبة المسرح، وقد لفت ذلك بقية أعضاء الفرقة وعلى رأسهم الريحاني، الذي لاحظ أن هذا الصوت الضاحك، لا يسمعه إلا عندما يظهر عبد الفتاح القصري أو يتحدث، فما إن انتهى العرض، نبهه الريحاني ساخرا:= بقالك جمهور ومعجبين يا سي عبده.. مين قدك ياعم* العفو يا أستاذ.. وإحنا هانروح فين بس؟= لا أنا بتكلم بجد.. ولا أنت مش واخد بالك من السنيورة اللي كانت بتضحك وتصقفلك على الفاضية والمليانة ولا أيه؟* ودي تفوتني.. طبعاً خدت بالي.. ومحسوبك رقعها رمش.. خلاها تدوب زي الحلاوة السمسمية= الله.. يعني السنارة غمزت ياعوبد؟* لسه فاضل على الحلو دقة يا أستاذ.تكرر ظهور هذه السيدة الضاحكة في المسرح بشكل يومي، لمشاهدة المسرحية ذاتها، وتضحك الضحكات نفسها، في المواضع ذاتها، وسط دهشة الجميع من هذا الإصرار المتعمد، وكأنها تريد أن تلفت نظر عبد الفتاح. وبعد ليال عدة من العرض، لم يجد عبد الفتاح بداً من التعرف إلى صاحبة «الضحكة» الشهيرة، فما إن انتهى العرض في إحدى الليالي، حتى غادر خشبة المسرح على الفور، ولم ينتظر تحية الجمهور، واستأجر «عربة حنطور»، لتكون في انتظارها، وما إن خرجت السيدة، وهمّ عبد الفتاح بالاقتراب منها، حتى لاحظ أنها بصحبة سيدة أخرى، ومعهما خادم رافقهما إلى «عربة الحنطور» التي كانت في انتظارهما، فتراجع عبد الفتاح ولم يقترب، غير أنه لاحظ وقوف «عربة الحنطور» ولم تتحرك، وفجأة وجد السيدة تخرج رأسها من العربة، وتشير له بالحضور، فصرف «عربة الحنطور» التي معه، واقترب مسرعاً، فهمست له:= أنا هأكون بكرة الساعة حداشر الصبح في كازينو قصر النيل.لم ينم عبد الفتاح ليلته، ظل يفكر في هذه الفاتنة التي شغلت به وشغلته بها، من تكون؟ وماذا تريد منه؟ فهي كما تبدو من مظهرها فتاة جميلة وفي مقتبل العمر، من طبقة ارستقراطية، فإذا كانت أعجبت به، فلماذا هو تحديداً؟ في الوقت الذي يمكنها أن ترتبط بشاب من طبقتها، فلماذا وقع اختيارها عليه؟أسئلة كثيرة دارت في رأس عبد الفتاح القصري، سرقت النوم من عينيه، من دون أن يعرف حقيقة المشاعر التي تسيطر عليه، لذا حرص على أن يكون من العاشرة صباحا في الكازينو، جلس في انتظارها، جاءت في موعدها:= Bonjour * صباح الفل والجمال.. أهلا أهلا.. المحروسة كلها منورة= Merci * هي الهانم مش مصرية برضه؟= أيه آه طبعا.. أنا آسفة إني بأتكلم فرنساوي مش واخدة بالي* وتاخدي بالك ليه.. قصدك يعني علشان اللبس البلدي.. لا لبس البلدي ده مزاج.. صحيح أنا ابن بلد.. لكن محسوبك متعلم وكمان ممكن أتكلم أكتر من لغة Je suis instruit et je parle plus d'une langue= رائع جداً.. واضح أننا هانكون * كملي.. هانكون أيه؟ ولا أكمل أنا؟= كمل* أنا بس عندي سؤال = اتفضل* ليه اخترتيني أنا من وسط الناس دي كلها.. وأنت زي ماهو باين كده مال وجمال = عندك حق.. بس صدقني في حاجات لو سألنا فيها مش هانلاقي إجابة.. وفي الحالة دي أحسن ناخدها زي ماهي.. من غير ما نسأل* عندك حق يا.... أما أنا صحيح مغفل.. إزاي ماسألتكيش عن اسمك لحد دلوقت= حكمت.. حكمت شريف* ومحسوبك = عبد الفتاح القصري.. طبعاًتعددت اللقاءات بين عبد الفتاح وحكمت، حتى أصبحا لا يفارقان بعضهما البعض، وخلال لقاءاتهما عرف أنها من أسرة عريقة، ورثت ثروة كبيرة عن والدها، وحاول رجال العائلة أن يتملقوها، للحصول على ثروتها، سبق لها الزواج من موظف كبير في الأوقاف، ولم تنجب منه، وطلبت الطلاق فور رحيل والدها، وقررت أن تعيش حياتها، غير أنها أعجبت بعبد الفتاح وبعد لقاءات عدة تزوجا.عودة بديعة
في منتصف يوليو انتهى عقد الريحاني مع مسرح «الفانتازيو»، فتعاقد مع مسرح صيفي بالإسكندرية. وفي أثناء إقامته فيها، توسط أصدقاؤه لإعادة العلاقة بينه وبين بديعة، فقبل كونه كان واثقاً من أنَّ وجود بديعة في فرقته سيكون خير سندٍ لها، ذلك أنَّ «كيكي» لم تستطع ملء الفراغ الذي تركته بديعة، ومن ثُمَّ كان في أشد الحاجة إلى بطلة كبيرة لفرقته، فاتفقا على أن تعود بديعة إلى مسرح الريحاني بعدما استقلت بفرقة مسرحية خاصة بها، غير أن الطابع الغنائي والاستعراضي الراقص كان يغلب على أعمالها، لذا حققت نجاحات كبيرة، ما دفع الريحاني إلى أن يضم الفرقتين معا لتقديم أعمال كوميدية غنائية استعراضية.البداية كانت في رواية «ياسمينة» التي كتبها لبديعة، ووضع لها زكريا أحمد الألحان، وأخرجها الريحاني في أكتوبر 1928، فحققت نجاحاً جماهيرياً كبيرا، وأثنى النقاد على تعاون الريحاني مع بديعة، وروعة ملابسها وتصاميمها.وتوالت الأعمال فقدما كوميديا خفيفة بِعنوان «أنا وأنت»، أخرجها الريحاني في يناير 1929، وعاد خلالها عبد الفتاح القصري للمشاركة مع الفرقة. في فبراير من العام نفسه، قدمت الفرقة مسرحية «علشان سواد عنيها» وما إن بدأ العرض، حتى دبت المشاكل والغيرة بين الريحاني وبديعة فانفصلا، كذلك بدأت الخلافات تخيم على الزوجين السعيدين، لرغبة حكمت في أن يعيش عبد الفتاح معها في بيتها بالجيزة.
البقية في الحلقة المقبلة