لما كانت الليلة الثالثة عشرة بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة هارون الرشيد ظنّ أنه سيتخلَّص بهذه الحيلة من قبضة خليفة الصياد، ولكن هذا ما كاد يسمع كلامه حتى شدّد قبضته على لجام جواده، ثم شهر بيده الأخرى عصاه في وجهه، وصاح به محتداً: وحق هذه العصا، إن لم ترد لي ثيابي التي سرقتها بالتي هي أحسن، لأضربَّنك حتى تبول على نفسك وتلوث ثيابك. فقال الخليفة لنفسه: ألقيت بنفسي إلى التهلكة إذ خاطرت بالمجيء وحدي إلى هذا المجنون، وما أظنّ أنني أتحمل ضربة من يده القوية بهذه العصا الغليظة.

ثم قال الخليفة هارون الرشيد للصياد: إذا كنت لا تصدِّقني ولا تقبل أن أمضي لآتيك بثيابك من حيث تركتها عند شاطئ النهر، فأنا أعطيك عباءتي هذه بدلاً منها. ثم خلع عباءته المصنوعة من الأطلس الثمين، وكانت لا تقدر بثمن، لدقة صنعها وتطريزها بالجواهر النادرة، وأعطى خليفة إياها، فأخذ يقلبها بيديه، ثم قال له: هذه عباءة مزوقة لا تصلح لغير المماليك والغلمان، وما أريد إلا ثيابي، لأنها مفصلة على مقاسي. فقال له الرشيد: خذ هذه العباءة لترتديها حتى أعود إليك بثيابك أيضاً.

Ad

أخذ خليفة العباءة ولبسها، فلما وجدها طويلة يصل ذيلها إلى عقبيه، خلعها مستنكراً، ثم أخرج من القفة التي معه خنجراً حاد النصل، وأخذ يقطع به ذيلها ليقصِّرها. لما انتهى من ذلك رمى الجزء الذي قطعه على الأرض، وأعاد لبسها فلم تصل إلا إلى ركبتيه، ثم التفت إلى الرشيد وأخذ يتفرس في وجهه ثم قال له: أرى لك خدين كبيرين وفماً صغيراً، فلا بد من أنك زمار. ضحك الرشيد وقال له: نعم أنا أعمل زماراً، وإذا كنت تحبّ أن تتعلّم صنعتي فأنا أعلمك حتى أجعلك زماراً مثلي. فقال له خليفة: كم تربح من الزمر؟ فقال له: «أربح عشرة دنانير في الشهر».

ضحك خليفة الصياد ساخراً، وقال له: أنت والله مسكين، وقد حملتني همك، ولا مانع عندي أنا من أن أعلمِّك صنعتي، وأتخذك غلاماً لي، فتعيش معي وتكون في خدمتي، وأشركك في مكسبي وهو عشرة دنانير في اليوم، تأخذ منها خمسة، فما رأيك في هذا أيها الزمار المسكين؟

فكر الرشيد قليلاً، ثم قال لخليفة الصياد: هل تربح في اليوم عشرة دنانير؟ فقال له خليفة: نعم أربح عشرة دنانير من إلقاء شبكتي هذه مرة في الماء، فإذا قبلتَ العمل عندي، فهيا بنا نبدأ العمل الآن.

وراق للرشيد أن يسرِّي عن نفسه بقبول ما عرضه عليه خليفة الصياد، فترجّل عن جواده، وقال له: قبلت عرضك يا سيدي، فمُرني بما شئت ولك عليّ السمع والطاعة. أمره خليفة بأن يربط الجواد إلى شجرة هناك، وبأن يشمِّر ثوبه ويضع ذيله في منطقته، ثم ناوله الشبكة والقفة ليحملهما ويمشي خلفه إلى النهر. ففعل كل ما أمره به راضياً مسروراً.

ولما وصلا إلى شاطئ النهر، أخذ خليفة الصياد منه الشبكة، وصار يعلمه طريقة إلقائها في الماء، وطريقة سحبها منه، وكلما أخطأ في أمر من ذلك وكزه بقبضته، وهدّده بعصاه، إلى أن اطمأن إلى أنه فهم الصنعة وحذقها، فترك له الشبكة وأمره بأن يلقيها وحده في الماء، ثم يسحبها منه.

قال له الرشيد: سمعاً وطاعة يا معلمي. ثم ألقى الشبكة في الماء، وصبر حتى استقرَّت فيه، ولما أراد سحبها لم يقدر على ذلك، فالتفت إلى خليفة مستنجداً، فما كان من هذا إلا أن شهر عصاه في وجهه وقال له: يظهر أنك لا تصلح إلا للزمر. إن أصاب شبكتي أي تلف فبسبب قلة فهمك. لا بد أن آخذ جوادك وأبيعه في السوق لأشتري بثمنه شبكة أخرى، ويكون عقابك أنك تحمل السمك على كتفك كل يوم إلى السوق.

تقدم خليفة الصياد ليساعد الرشيد على جذب الشبكة من الماء، فلما تمكنا من إخراجها بعد جهد طويل، وجدها امتلأت حتى آخرها بأنواع مختلفة من السمك.

أسماك هارون الرشيد

لما كانت الليلة الرابعة عشرة بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن خليفة الصياد لما رأى الشبكة ملآنة بالسمك، التفت إلى الرشيد وقال له: الآن يا زمَّار يمكن أن يأتي منك خير في صنعة الصيد، ولا شك في أن هذا السمك الذي في الشبكة يساوي 20 ديناراً على أقل تقدير، فاترك الشبكة بما فيها، واذهب أنت فاركب جوادك إلى السوق، حيث تشتري لنا قفتين كبيرتين، لننقل فيهما السمك إلى هناك ونبيعه.

فقال له الرشيد: سمعاً وطاعة يا معلمي. ثم توجه إلى حيث ترك جواده فحل قيده وركبه، ومضى به مسرعاً حتى وصل إلى جعفر البرمكي، في الموضع الذي كان تركه فيه منذ ساعة.

وكان الوزير تملكه القلق لغياب الخليفة، فلما رآه مقبلاً يضحك مسروراً، قال له: لعلك يا مولاي وجدت في ذلك البستان ما حبب إليك البقاء فيه هذه المدة كلها، وقد داخلني الخوف وخشيت أن يكون هناك خطر، فأسرعت بإحضار بعض المماليك والجنود، وكنت على أهبَّة السير بهم إلى البستان في اللحظة التي رجعت إلينا فيها، فالحمد لله على سلامتك، ولعلك تأمر الآن بالرجوع إلى قصر الخلافة.

روى له الرشيد وهو يضحك كل ما جرى له مع خليفة الصياد، من البداية إلى النهاية، وكيف أعطاه عباءته الأطلس فلم تعجبه وقص ذيلها كي لا تصل إلى ما تحت ركبتيه، ثم كيف اتفق معه على تعليمه الصيد، ليحترفه بدلاً من صنعة الزمر التي رأى بفراسته أنه يعمل فيها، إلى أن تعلم بالضرب إلقاء الشبكة وسحبها، وخرج فيها سمك كثير مختلف الأنواع والألوان، فأرسله ليشتري قفتين كبيرتين لنقله فيهما إلى السوق حيث يبيعانه هناك بعشرين ديناراً، يعطيه نصفها بحسب اتفاقهما.

ثم طلب منه أن يأمر المماليك والغلمان الذين معه بأن يتوجهوا إلى خليفة الصياد عند شاطئ النهر، ويشتروا السمك الذي في شبكته كل سمكة بدينار، فقال جعفر البرمكي للرشيد: سمعا وطاعة يا أمير المؤمنين. ودعا المماليك والجنود وكلفهم أن ينفذوا أمر الخليفة فوراً، ثم يأتوا بالسمك إلى قصر الخلافة.

فيما كان خليفة الصياد جالساً إلى جانب الشبكة في انتظار عودة الرشيد وهو معتقد أنه زمار مسكين رضي أن يعمل غلاماً له، أقبل عليه المماليك والجنود فوق جيادهم، فقال لنفسه: يظهر أن غلامي الزمار قابل أحداً من أهل صنعته في الطريق، وأخبره بما فتح الله عليه في صنعته الجديدة عندي، فجمع بعضهم بعضاً وجاؤوا إلى هنا كي أعلمهم مثله. لما وصلوا إليه، وسلموا عليه، رد السلام بفتور من غير أن يتحرك من مكانه.

ثم سألهم: هل أنتم جميعاً من الزمارين؟ ضحكوا وقال له كبيرهم: إننا من المماليك والجنود في قصر الخلافة، وأتينا نشتري ما معك من السمك كل سمكة بدينار. فقال خليفة: لا أبيع شيئاً منه حتى يحضر شريكي ولو دفعتم ألف دينار ثمناً لكل سمكة. حاولوا أن يقنعوه ببيع السمك لهم ثم يحاسب شريكه عند حضوره، لكنه لم يقتنع وأصرّ على رأيه. على هذا، هجموا على الشبكة وأخذوا ما فيها من السمك بالقوة، وصار كل منهم يعد ما أخذه من السمك ثم يترك إلى جانب الشبكة مثل عدده دنانير. أما خليفة فإنه لما شاهد هجومهم ومعهم السيوف والرماح والحراب وغيرها من أنواع السلاح، اعتقد أنهم من اللصوص وقطاع الطرق، وخشي على حياته منهم، فملأ حجره سمكاً وانطلق به هارباً وهو يقول لنفسه: هذا اليوم شؤم كله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

لما انتهى المماليك والجنود من أخذ السمك الذي في الشبكة، وترك دنانير بعدده إلى جوارها، انطلقوا راجعين إلى قصر الخلافة، وعلى آثر ذلك رجع خليفة إلى موضع الشبكة وهو يدعو الله ألا يكونوا أخذوها مع السمك أيضاً.

 

الطواشي صندل

 

لما وصل إلى هناك، أخذته الدهشة، إذ وجد إلى جانب الشبكة أكواماً من الدنانير، فلم يصدق عينيه أول الأمر، ثم تحقق من وجودها بعدما أمسكها بيده وفحصها، فجلس محاولاً عدها وعقله يكاد يطير من الدهشة والفرح وكان أحد المماليك تأخر عن التوجه معهم لشراء السمك من عند خليفة الصياد، لأن جواده جمح به في الطريق، فلما تمكن من كبح جماح الجواد، وتوجه إلى الشاطئ في أثر زملائه، كانوا رجعوا إلى قصر الخلافة، ولم يبق إلا خليفة الصياد مشغولاً بعد الدنانير التي تركوها له ثمناً للسمك الذي أخذوه.

وما كاد خليفة يرى المملوك أمامه، حتى وقف شاهراً عصاه في وجهه، ليدافع عن نفسه وعن الثروة الجديدة التي هبطت عليه، فقال له المملوك: لا بأس عليك أيها الصياد، فما أريد إلا شراء ما عندك من السمك كل سمكة بدينار، مثل زملائي الذين كانوا هنا.

فقال له خليفة: أعطني الثمن أولاً ثم أعطيك ما بقي عندي من السمك. وضع المملوك يده في جيبه ليخرج له الدنانير التي فيه، لكنه لم يجد فيه شيئاً وتبين أنها سقطت منه خلال جري الجواد به في الطريق، فالتفت إلى خليفة الصياد وقال له: أعطني السمك، ثم تعال إلى قصر الخلافة في أي وقت أردت، واطلب مقابلة «الطواشي صندل»، فأقابلك وأعطيك الدنانير المطلوبة مضاعفة.

قال له خليفة: أنا ما اعتدت أن أبيع إلا بالنقد، فاذهب وأحضر الثمن وإلا فلا أعطيك حتى سمكة ولو كنت أنت الخليفة هارون الرشيد نفسه.

وخجل الطواشي صندل أن يرجع ويده فارغة من السمك المطلوب للخليفة، فاستل سيفه وهجم به على خليفة الصياد، وهدّده بضرب عنقه إن لم يعطه كل ما معه من السمك، ثم يلحق به إلى القصر لقبض الثمن. عندئذ، خاف خليفة على حياته، وناوله السمك وهو يقول: خذه هدية مني إليك، فأخذه وانصرف.

لما كانت الليلة الخامسة عشر بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن خليفة الصياد ما كاد الطواشي يغيب عن نظره حتى قام فجمع الدنانير التي تركها له المماليك والجنود، ووضعها في حجر العباءة التي أخذها من الرشيد، ثم حمل شبكته وقفته على كتفه، وسار قاصداً إلى داره.

لما وصل إلى الحارة حيث داره، لقيه خياط الخليفة خارجاً من منزله فيها، وتعجب غاية العجب حين وجده يرتدي عباءة من ملابس الخليفة، فسأله: من أين لك هذه العباءة؟ فقال له: إنها عباءة زمار مسكين أشفقت عليه وجعلته غلاماً لي لأعلمه صنعتي، فسرق ملابسي وهرب تاركاً لي هذه العباءة المزوقة التي يخجل المرء من لبسها.

أدرك الخياط أن ذلك الزمار لا بد من أن يكون هو الخليفة نفسه، وضحك من سذاجة خليفة الصياد، خصوصاً بعدما علم منه أنه قطع ذيل العباءة ورماه على الأرض أمام صاحبها الزمار، ثم افترقا ومضى كل منهما في سبيله.

 

قبر «قوت القلوب»

هذا ما كان من أمر خليفة الصياد، أما الخليفة هارون الرشيد فما كاد يصل إلى القصر، بعدما غاب عنه طوال النهار، حتى سارع إليه مسرور السياف فقبل الأرض بين يديه وقال له: الحمد لله على سلامتك يا أمير المؤمنين. ثم أخذ في البكاء، فسأله الخليفة: ماذا جرى وأي أمر يبكيك؟ فلم يجب مسرور، وواصل البكاء، كذلك وجد الخليفة كل من في القصر يبكون، فانقبض قلبه، وارتجف بدنه من الغيظ والغضب لسكوت الجميع وكتمان ما يبكيهم عنه.

فصاح بهم: والله إن لم تخبروني بما حدث لأضربن أعناقكم جميعاً. حينئذ، تقدم مسرور السياف وقال له: اعلم يا مولاي أن الجارية «قوت القلوب» كانت جالسة في مقصورتها صباح اليوم، وبينما هي تتناول شيئاً من الشراب إذ شرقت وأصيبت بغصة في حلقها، فماتت لساعتها. لما بلغني النبأ أسرعت به إلى مسكن مولاي، فعلمت أنك خرجت مبكراً للصيد ومعك الوزير جعفر، وأبت مولاتي الملكة زبيدة إلا أن تقوم بالواجب وزيادة، فأمرت بإعداد قبر جميل لها في حديقة القصر، وأشرفت بنفسها على تجهيزها ودفنها.

لما سمع الرشيد ذلك، ضاقت الدنيا في عينيه، وبللت دموعه خديه، ثم طلب أن يدلوه على قبرها فدلوه عليه، وهناك أمضى ساعات يبكي وينتحب، ثم أنشد يقول:

بالله يا قبر هل زالت محاسنها

وهل تغير ذاك المنظر النضــــر

يا قبر، ما أنت بستان ولا فلك

فكيف يجمع فيك الغصن والقمر

ولم يزل كذلك حتى فات وقت العشاء، فنهض لأداء الفريضة، وغادر القبر مترحِّماً على من فيه، ورغم شدة تعبه طول النهار، لم ير النوم في ليلته، كما أنه لم يجد أية شهية للطعام أو الشراب. أما الملكة زبيدة زوجته فأمضت ليلتها والدنيا لا تسعها من السرور، لنجاح حيلتها في التخلّص من تلك الجارية التي كادت تستأثر بكل اهتمام الرشيد!

لما كانت الليلة السادسة عشرة بعد الأربعمئة، قالت شهرزاد للملك شهريار: بلغني أيها الملك السعيد أن السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد كانت امتلأت غيرة من «قوت القلوب»، وغضباً عليها وغيظاً منها، لاستئثارها بحب الرشيد.

وظلت مدة طويلة وهي تفكر في الأمر، وقد هجرها المنام، وفقدت شهيتها للطعام، ثم هداها التفكير إلى طريقة للتخلص من هذه الجارية، وأخذت تتحين فرصة لتنفيذ المكيدة التي دبرتها. لما علمت بخروج الرشيد ومعه وزيره جعفر للتريض في ضواحي بغداد، أرسلت إلى قوت القلوب تدعوها إلى زيارتها، واستقبلتها أحسن استقبال، وأكرمتها غاية الإكرام. ثم قالت لها: سمعت بكمال أدبك وظرفك وحسن صوتك وعزفك، فأحببت أن يكون لي اليوم نصيب من الاستماع إلى حديثك وغنائك. عندئذ، قامت قوت القلوب وقبلت الأرض بين يديها، ثم نهضت على قدميها، وقالت بلسان فصيح، وصوت عذب مليح: السمع والطاعة لذات المقام الرفيع، والجناب المنيع، زينة السلالة العباسية والعترة النبوية. ثم جلست وتناولت الدف وأخذت تنقر عليه بالأصابع، بصنعة تذهل المسامع، وأنشدت:

ألا يا طار قلبي طار شوقاً

ويصرخ من جواه وأنت تضرب

ومن عجب تفاجئه بضرب

يعذبه فيعجبه ويطرب

ثم وضعت الدف، وأخذت شبابة نفخت فيها فأخرجت من الأنغام، ما حرّك الآلام وحيّر الأفهام، وأنشدت تقول بصوت يسحر العقول:

لها أعين، أنسانها بأصابع

يشير إلى لحن صحيح بلا شكل

إذا صوتها أوفى على سمع عاشق

ومعشوقة أنساهما لذة الوصل

ثم وضعت الشبابة، وأخذت عوداً أجلسته في حجرها، وحنت عليه حنو الأم على ولدها، وأنشدت:

وغصن رطيب، عاد عودا لقينة

يحن إليه الأكرمون الأفاضل

إذا حركت أوتاره حركت أسى

فكان كأغصان عليها بلابل

لما رأت إعجاب السيدة زبيدة بغنائها، وجمال صنعتها، وحسن أدائها، أنشدت تقول هذين البيتين:

يوم عليك مبارك

فيه السرور يجدد

إقباله متواتر

ونعيمه لا ينفد

ولم تزل قوت القلوب، تتفنن في الغناء والعزف، وتأتي بكل فن محبوب حتى كادت السيدة زبيدة تنسى غيرتها، وتحس في قلبها محبتها، وتعجبت مما اجتمع فيها من المحاسن والمفاتن، إذ كانت مع عذوبة صوتها، وحسن أدبها وظرفها، باهرة الجمال، كريمة الخلال، أسيلة الخدين، رمانية النهدين، بوجه أقمر، وجبين أزهر، وطرف أحور، قد سكنت أجفانها فتوراً، وأشرق وجهها نوراً وحبوراً، وكأن الشمس تطلع من غرتها، والليل يستمدّ ظلامه من طرتها، والمسك يفوح من نكهتها، والأزهار تزهو من بهجتها، والقمر يبدو من جبهتها، والغصن يميل من ليونتها.

وتكحَّلت بالسحر عيناها، وتقوس حاجباها، واحمر من الخفر خداها، وشاركتهما في الحمرة شفتاها، فصارت فتنة لكل من رآها، وسبحان الذي خلقها فسوَّاها، وكأنها هي التي عناها، من قال في جميلة يهواها:

إذا غضبت رأيت الناس قتلى

وإن رضيت فأرواح تعــــود

لها من طرفها آيات سحر

تُميت بها وتحيي من تريــدُ

وتسبي العالمين بمقلتيها

كأن العالمين لها عبيد!

ولكن السيدة زبيدة، عادت فتذكرت ما دبرت من مكيدة، وقالت لنفسها: إنْ لم أتخلص من هذه الجارية، فلن أسترد مكانتي عند الرشيد ثانية. عليه، أشارت إلى بعض جواريها، فأحضرن نوعاً فاخراً من الحلوى التي تشتهيها، بعدما وضعن قليلاً من المخدر فيها، ثم قدّمت بيدها قطعة منها لـ «قوت القلوب»، فما كادت تستقر في جوفها حتى دار رأسها، وبدت وهي جالسة، وكأنها نائمة.

أمرت السيدة زبيدة بحملها إلى إحدى المقاصير، وهناك أرقدتها في صندوق كانت أعدته لذلك، ثم أغلقته، وأمرت أحد العبيد بحمله إلى السوق، وبيعه بأي ثمن لمن شاء، بشرط ألا يفتحه إلا بعد البيع والشراء، وفي موضع لا تصل إليه أعين الرقباء، فحمل العبد الصندوق، وتوجه مسرعاً إلى السوق.

وفي الوقت نفسه كان آخرون من العبيد والغلمان، أعدوا قبراً جميل الصنع في حديقة القصر، ثم أذيع على الجميع أن الجارية قوت القلوب توفيت إلى رحمة الله، وأن السيدة زبيدة أمرت بصنع هذا القبر وأشرفت على دفنها فيه. لما رجع الرشيد وعلم بموتها، لم يخالجه شك في صحة الخبر، وتوجه إلى ذلك القبر فبكى عنده من الغروب إلى وقت السحر.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وإلى حلقة الغد