في الرابع عشر من مايو عام 1964، أقيم احتفال تحويل مجرى نهر النيل، بحضور الزعيم جمال عبدالناصر، وبرفقته رئيس الاتحاد السوفياتي «نيكيتا خروشوف» والزعيم السوري شكري القوتلي، ونخبة من رواد الفضاء الروس معهم أول رائدة فضاء في العالم «فالنتينا»، فغنى سيد مكاوي أغنية ترحيب بأول رائدة فضاء في العالم، من كلمات صلاح جاهين:فالنتينا.. فالنتينا.. أهلا بيكي نورتينا
عاد الصديقان من الاحتفال، ليكون ثمة احتفال من نوع آخر أعده صلاح جاهين، بمشاركة سيد مكاوي، وللدقة أراده صلاح، على شرف الشاعر فؤاد حداد، أحد أهم شعراء العامية المصرية، بمناسبة الإفراج عنه من المعتقل بعد قضاء خمس سنوات فيه.لم يكتف صلاح بالاحتفال الذي دعي إليه الزملاء والأصدقاء الشعراء والفنانين والمثقفين، بل عمد في اليوم التالي إلى رسم فؤاد حداد في مربع في الأهرام وكتب أنه يتنازل عن هذه المساحة لأخيه فؤاد حداد، الذي يعتبره رابع شعراء العامية في مصر، بعد: «ابن عروس، عبد الله النديم، بيرم التونسي»، ولم يكن فؤاد ليفعل ذلك أمام هذا الكرم والاحتفاء الكبير به.وكان صلاح جاهين نشر قصيدة «المسحراتي» التي نشرها في مجلة «صباح الخير» في رمضان من العام 1958، لمشاركة الشعوب الإسلامية، في الاحتفال بشهر رمضان، واصفاً شوارع مصر وأحياءها في ليالي رمضان:النور ملو الشوارع.. ومليون راديو والعالساعة اثنين صباحا.. لكن أيه الموانع الخلق رايحه جايه.. والدنيا لسه حيةمليانة بالهأو.. وزعيق القهوجية واحد يقول لواحد.. خليك ياعم قاعدالتاني يقوله شكرا.. دانا من المغرب مواعد فيه سهرة لسه عندي.. في بيت فلان أفندي حاناكل كنافة بلدي.. ونشرب تمر هندي واللي تروح دالقه جردل.. فوق حضرة المبجل طبعا صاحبنا يزعل.. وينفجر شتايم واللي يقول ياجماعة.. واللي يقول يابهايمولو طرطقت ودنك.. في وسط دي العظايمتسمع مسحراتي بطبلةصوتها واطي يقول: اصحى يانايمفور نشر القصيدة، اتصل رئيس الإذاعة بصلاح جاهين، وطلب منه تقديم أغنية «المسحراتي» للإذاعة خلال شهر رمضان المقبل:* أنا ما اقدرش أرفض الشرف ده.. لكن أنا عندي لك مفاجأة= مفاجأة أيه؟* عندي اللي يكتب المسحراتي أفضل مني ألف مرة= أفضل منك.. ده مين ده؟* أخويا وحبيبي فؤاد حداد.= أمرك عجيب يا صلاح.. أقولك قدم المسحراتي.. تقوللي فؤاد حداد.. ليه؟* أقولك يا سيدي ليه.. شوف جايز أكون أنا أشهر وأشطر منه في الوصول للناس.. لكن إن جيت للحقيقة فؤاد أشعر مني ألف مرة ده الأستاذ اللي اتعلمت منه.. فؤاد شاعر ملحمي.. شاعر بجد.. وطبعاً مش محتاج أقولك إن أحسن واحد يلحنها عم الشيخ سيد.
وطنية الفن
بعد إقرار «ميثاق العمل الوطني» في يونيو 1962 وطرح شعار «حرية. اشتراكية. وحدة»، جاءت خطوات تالية على طريق تبني الدولة للنظام الاشتراكي، وفي مارس 1964 صدر دستور مؤقت نص في مادته الثالثة، أن «الوحدة الوطنية التي يصنعها تحالف قوى الشعب الممثلة للشعب العامل، وهي الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون، والرأسمالية الوطنية هي التي تقيم الاتحاد الاشتراكي العربي ليكون السلطة الممثلة للشعب والدافعة لإمكانيات الثورة».التقط عبد الحليم حافظ هذا الخيط السياسي الجديد، وطلب من صلاح جاهين أن يعبر عنه غناء، فوجده بالفعل منفعلا بتلك التحولات العميقة ومؤمناً بها، وبدأ على الفور كتابة أغنيات تعبر عن تلك المرحلة. لم يكن ثمة من يتصور أن يتم غناء مثل هذه الكلمات، لولا اقتناع الموسيقيين المبدعين وحماستهم، ليس للكلمات فحسب، لكن للمرحلة وما يتم فيها، فكتب صلاح «بستان الاشتراكية»، ووضع ألحانها محمد الموجي، ووزعها علي إسماعيل، وغناها عبد الحليم حافظ، يقول مطلعها:افتــح افتــح ..اقفــل حــول نقعــد نرتــاح.. لا ح نكمــــل ده السد العالي شهل ..علـى راس بستـــان الاشتـراكيــة واقفيـــن بنهنــدز ع الميه.. أمـة أبطال عُلمـا وعمـالومعانا جمال.. بنغني غنـوة فـرايحيـه رغم تفوق صلاح جاهين في أنواع الفنون التي أبدع فيها، إلا أن إبداعاته الشعرية جعلت منه أحد أهم شعراء القرن العشرين في مصر، ومن أهم شعراء الإنسانية في العالم، لما قدمه من إبداع شعري إنساني صادق وجديدٍ ومعبرٍ عن روح إنسان العصر وقضاياه، من خلال خيال شعري جريء مغاير لما يجري عليه الشعر العربي.كتب جاهين الأغنية الوطنية بشكل مختلف لما كانت عليه قبله، فبدت وكأنه يخاطب محبوبته، فضلا عن مفردات العامية التي أضافها، ولم يكن ثمة من يتصور أنها يمكن أن تأتي في أغنية، غير أن التغيير لم يكن على مستوى الكلمات فحسب، بل ساهم كمال الطويل في هذا التغيير، إذ أبدع ألحانا وطنية مغايرة للسائد، مع صوت عبد الحليم حافظ، الذي بدا وكأنه جاء في وقته ليغني هذه الكلمات، فبعدما قدم الثلاثي "بستان الاشتراكية” قدموا معا "بلدي يا بلدي”، يقول مطلعها: بلدي يا بلدي والله احلويتي يا بلديبلد الثوار يا بلدي.. بلد الأحرار يا بلدييا ولاد بلدي.. أنا هتكلم كده بالبلدياستكمالا لحالة الإبداع التي يعيشها جاهين، ورغم أنه كان اتخذ قرارا بعدم تكرار تجربة التمثيل بعد فيلم «لا وقت للحب»، تراجع عن قراره، أمام الدور الذي عرضه عليه المخرج عاطف سالم في فيلم «المماليك»، قصة نيروز عبد الملك، سيناريو وحوار عبد الحي أديب، بطولة النجم عمر الشريف، في أول عمل له في مصر، بعد اتجاهه إلى العالمية في «هوليوود»، وأدى صلاح دور «الشيخ سيد» ابن البلد الوطني الشجاع، الذي يضحي بحياته من أجل حرية بلده، والخلاص من المماليك.تكريم مستحق
حقق الفيلم نجاحاً كبيراً، رغم أنه يتناول أحداثا تاريخية، غير أن رسالته كانت واضحة، وهي النضال من أجل الاستقلال والحرية، وهو ما عبر عنه أيضا في أغنية «ناصر يا حرية»، ألحان كمال الطويل وغناء عبد الحليم أيضا:ناصر يا حرية ناصر يا وطنيةيا حرية يا وطنية ياروح الأمة العربيةالشعب يريدك يا حياته يا موصل موكبه لغاياتهوحياة المصحف وآياته اسمك في قلوبنا أغنيةناصر يا حرية ناصر يا وطنيةيا حرية يا وطنية ياروح الأمة العربيةوحياة الثورة وغلاوتها وحياة الخضرة وحلاوتهاوحياة الشدة وقسوتها كلنا وياك وحدة قويةيا حرية يا وطنية ياروح الأمة العربيةيا بني للسد العالي والكهربا في الريف بتلالييا مخلص يا عظيم يا مثالي تحميك القدرة الإلهيةيا حرية يا وطنية ياروح الأمة العربيةلم يكتب صلاح جاهين أغنية، أو خط بريشته رسمة، أو حتى شارك في عمل سينمائي وطني، بغرض شهرة أو مال، أو حتى على سبيل «أكل العيش» باعتبار أن كتابة الشعر عمله الذي يقتات منه، كما لم ينتظر كلمة شكر، أو تكريم على ما يقدمه، لإحساسه بأنه يشارك في بناء بلده بالكلمة، وأن ما يفعله جزء أصيل من تلك المسؤولية. رغم ذلك وجد جاهين اسمه في أول القائمة، مع الذين كرّمهم الرئيس جمال عبد الناصر في «عيد العلم» عام 1965، ومنحه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ونقل التلفزيون العربي الحدث، فانهمرت دموع والده المستشار بهجت حلمي، وهو على فراش المرض، عندما شاهد زعيم الأمّة العربية جمال عبد الناصر يكرّم ابنه، ففهم المقولة التي قالها له صلاح يوما، بأنه سيجعل الناس تشير إليه بأنه والد صلاح جاهين.آلام في الأسرة
وضع صلاح الوسام على صدر والده، فبكيا معا، بكى صلاح لشدة حبه لوالده مثله الأعلى الذي يراه على فراش المرض، وبكي الأب، ليس لنجاح الابن وإثبات صدق كلامه فحسب، بل لشعوره بقيمة ما فعله الابن، وما قدمه لوطنه.علم جاهين من الأطباء أن المرض تمكن من والده ووصل إلى مرحلة حرجة، فانسحب في هدوء وخرج من البيت هائماً على وجهه وبعيداً عن كل المحيطين به، وعن زوجته وولديه، وعن الأصدقاء المقربين منه، لم يعد ثمة من يعرف مكان صلاح جاهين لما يقرب من عشرة أيام، بحثت فيها شقيقته «بهيجة» عنه في كل مكان، سألت عنه الأصدقاء، ذهبت إلى الأماكن التي يتردد عليها، من دون جدوى، قصدت عبد الحليم حافظ، الذي أكد أنه لم يلتق به منذ أكثر من أسبوعين، غير أنه طمأن شقيقته وطلب منها العودة إلى البيت، وأن صلاح سيعود في خلال 24 ساعة.في اليوم التالي نشر عبد الحليم حافظ إعلانا في جريدة الأهرام يقول فيه: «صلاح جاهين.. عد إلى بيتك.. أهلك يبحثون عنك».عاد صلاح في اليوم نفسه باكيا، بعدما أمضى عشرة أيام في أحد «بنسيونات» الإسكندرية، ليس هرباً من المسؤولية، لكنه أراد أن يبتعد حتى لا يرى والده يحتضر، لم يستطع أن يرى الموت أمام عينيه يخطف أحب الناس إلى قلبه، أراد أن يختفي عن الجميع حتى لا يرى أحد دموعه، احتضن والده وقبله، وأهداه ديوانه الجديد «قصاقيص ورق»: * إلى صديقي الأول بهجت أحمد حلمي.. والدي»= أنا سعيد أوي أني عشت لحد ما شوفتك وأنت في قمة النجاح* يعني راضي عني يابابا- طبعا يا حبيبي.. إحنا الاتنين راضين عنكلم يتحمل لحظة الوداع القاتلة، والمرض اللعين يفترس والده، فإذا كان أمراً لا مفر منه، فليكن من دون وجوده، وليس أمام عينيه، لأن قلبه لا يحتمل الحزن:أنا كان لي أب.. وكان رئيس محكمة ستين سنة. في قضية واحدة ارتمىبعد المداولة كشفت وجهه لقيت حلوة الحياة ومضحكة ومجرمة عجبي يا حزن يا قمقم تحت بحر الضياعحزين أنا زيك وأيه مستطاعالحزن مابقالوش جلال ياجدعالحزن زي البرد.. زي الصداععجبي!حزن واكتئاب
رغم حالة الحزن التي دخلها جاهين وعبر عنها بكلمات بسيطة في معناها، عميقة في مضمونها، تخرج من عمق حزين مكتئب، ظلّ يرى الأمل في الغد، ولم يتراجع عن المشاركة في رحلة البناء، التي بدأها الرئيس جمال عبد الناصر، بهدف اطلاع فئات الشعب، على ما يتم من إنجازات في الدولة، وفي الوقت نفسه، حثهم على المشاركة في مرحلة البناء، وهو ما عبر عنه بصدق ووطنية في أغنية «صورة» التي كتبها فور أن باح بحبه إلى منى قطان، وأبدى رغبته في الزواج منها، ولحنها كمال الطويل، وغناها الضلع الثالث في النجاح والإحساس بالوطنية والمسؤولية، عبد الحليم حافظ:صورة صورة.. كلنا كدا عايزين صورةصورة تحت الراية المنصورةصورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورةيا زمان صورنا صورنا يا زمانهنقرب من بعض كمان هنقرب من بعض كمان واللي هيبعد من الميدانواللي هيبعد من الميدانعمره ما هيبان في الصورةخضرة وماية وشمس عفية وقبة سما زرقا مصفيةونسايم سلم وحرية ومعالم فن ومدنيةومداين صاحية الفجرية على أشرف ندهة وأذاندي بلدنا مصر العربية.. صورة منورها الإمامعلى مدد الشوف مدنه ومدنه دي لصلاتنا ودي لجهادنامدخنة قايدة قلوب حسّادنا تحتها صلب كأنه عنادناوقدّامه من أغلى أولادنا.. عامل ومهندس عرقانشّبان والشبان في بلدنا في الصورة في أهم مكانصوّر يا زمان كلنا هنا في الصورة زمايل نوفي اللي ميثاقنا عليه قايلمن أصــغر طفله بجدايل على زرع ودرسا على زرعة ودرسات تتمايل للفلاح أبو خير وجــمايل للواعظ الحافظ القرآنللجندي الأسد اللي شايل على كتفه درع الأوطانوبعيد عن العين لكين في الصورة أوضــح ناسناس تحت حر الجبال والقلب كله حماسبتفجر الرمل أنهار من ذهب أسودوناس بتكسيه بخضره وكل لون له ناسوأساتذة وعلما ومعامل ودكاترة من الشعب العامـلورجال سكر على مكاتبها تخدم بالروح لما تعامـلفي الصورة مفهاش الخامل والهامل واجبه نعسـانمفهاش إلا الثوري الكامل المصري العربي الإنسانصور يا زمان حلوين قوي كده وحياه ربي يا حبايبي بقولها من قلبيثورتنا صورتنا وماأحلاها في إطار التنظيم الشـعبيناصر وإحنا كلنا حواليه ناصر ناصر ناصر وعيونا الدنيا عليه ناصرناصر والنصر بيسعى إليه ناصر والشعب دليله وإلهامهقربوا من فكره وأحلامه ياللي عليكم كل كلامهفي الصوره طالبكم قدامه قيادات شعبيه قلتم أيهقلنا يا زعمنا قلوبنا أهي أيامنا أهي ليالينا أهيفي يوم الدم... وهبنا الدم.. هنبخل بالليالي ليهوالصوره اكتملت بالرواد مع ناصر وإيدهم في إيديهالشعب ووطنه.. وزمنه وعمله.. وأمله بطله.. أبو الشجعانكان صلاح جاهين، طوال الوقت، كتابا مفتوحاً، لم يكن صعب الفهم، لأي إنسان يقترب منه، لأنه سيكتشف بسهولة تطابق ظاهره وداخله، رجل متصالح مع نفسه، صادق المشاعر، عندما يضحك فمه، لا بد من أن يكون قلبه ضاحكاً أيضاً، غير أنه فجأة تحول عن ذلك، ظل فمه يضحك، وبدا وجهه سعيداً، غير أن قلبه تعيس، حزناً على رحيل والده، لم يتحمل ألم الفراق، فسقط مريضاً، وصارحه الأطباء بأن كبده أصبح مريضاً، لم يعد يحتمل كل ما كان يقوم به في السابق، بل ونصحه الأطباء بضرورة إنقاص وزنه، ما أصابه باكتئاب شديد، لدرجة أنه لاحظ الخوف في أعين كل من حوله، من أن يؤدي به الاكتئاب إلى الانتحار.رقاصه خرسا ورقصه من غير نغمدنيا.. يا مين يصالحها قبل الندمساعتن تهز بوجهها يعني لايترججوا نهديها يعني نعمعجبي!!...اخطفني ياللي تحبني ع الحصانالدنيا قالت يوم في ماضي الزماناخطفني ياللي تحبني ع الفرسالدنيا قالت.. قام خطفها الشيطانعجبي!!...من بين شقوق الشيش وشقشقت لكمع شهقة العصافير وزقزقت لكنهار جديد أنا.. قوم نشوف نعمليهأنا قلت يا ح تقتلني.. يا ح اقتلكعجبي!!...قلبي عليل يا ناس وفي الكاس دواهمدَّيت له إيدي شربت م اللي حواهجنبي الشمال خف.. اليمين اتوجعوأيه يداوي الكبد م اللي كواهعجبي!!..... دي مذكرات وكتبتها من سنينفي نوته زرقا لون بحور الحنينعترت فيها.. رميتها في المهملاتوقلت أما صحيح كلام مخبولينعجبي!!البقية في الحلقة المقبلة