ظلمناك يا قدس!
المفارقة العجيبة أن القضية الفلسطينية تم احتضانها بالمال والمقاومة العسكرية والتضحيات السياسية من حكومات قومية وليبرالية وعلمانية ومن التيارات والنخب ذاتها، ولكن مع تقهقر وانكسار هذه الموجة وتصاعد نجم الأحزاب والتيارات الدينية تم بيع قضية القدس واستحقاقات مأساة فلسطين بأبخس الأثمان.
في ذكرى يوم القدس يعيش المسجد الأقصى، بكل عظمته وقدسيته وهالته المباركة أصعب حالات المظلومية وقلة الناصر، في مفارقة غريبة ومحزنة ومؤشر واضح على الذل والمسكنة التي يشهدها العالم العربي والإسلامي، فعلى الرغم من كل الدلالات الشرعية والسياسية والأخلاقية في أولوية الانتصار لهذه الأيقونة المباركة التي انتهكتها الصهيونية، ودنست محارمها وشردت أهلها، وعاثت بها فساداً لم تشهده البشرية ولم تعهده الأخلاقيات الإنسانية والنواميس القانونية، إلا ردود الأفعال لم يهتز لها جفن ولم تقشعر لها شعرة في جسد الحكومات والتيارات والأحزاب ومدعي الحق والجهاد باسم الإسلام والعروبة زوراً وبهتاناً.آخر رصاصة أطلقها العرب من أجل القدس كانت في أكتوبر 1973، أي قبل نصف قرن، ويبدو أنها كانت رصاصة الرحمة على كرامة العرب ونخوتهم وغيرتهم على مقدساتهم والانتصار لشعب مظلوم ومحاصر ومشرد، ووصلت الحال إلى حرق بيوت الآمنين بمن فيها من أطفال ونسوة ومعاقين.ساحات الجهاد باسم الدين فتحت على مصراعيها واستبيحت بلاد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فدمرت العراق وسورية واليمن وليبيا، وطالت سكاكين النحر المسلمين في مصر والجزائر وتونس والفلبين ونيجيريا وفجرت المساجد في الكويت والسعودية والبحرين، وجاء المرتزقة المفخخون بالأحزمة الناسفة والغازات السامة والشاحنات لقتل ودهس الأبرياء في الشوارع والمقاهي والمطاعم، ووصل الجهاد إلى العمق الأوروبي في لندن وباريس وميونخ وبلجيكا ونيويورك، لكن بوصلته أضاعت إسرائيل التي امتدت في توسعها واحتلالها زحفاً في بناء المستوطنات وتدمير وتشريد بيوت الفلسطينيين.
الوفود العربية باتت تتباهي في هرولتها للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ولم تتردد حتى في الرقص الماجن على أنغام الموسيقى مع الصهاينة والمحتلين طرباً على جراحات الأيتام والأمهات الثكالى، ومناهج التربية في معظم الدول العربية مسحت مسمى العدو الصهيوني، واختلقت أعداء جددا من العرب والمسلمين.المبالغ التي دفعت عبر القنوات الرسمية والتبرعات الشعبية للميليشيات الإرهابية، وكم الأسلحة بأنواعها الفتاكة والحديثة وأشكال الدعم السياسي والحواضن الاجتماعية خلال السنوات الخمس الأخيرة تجاوزت أضعافا مضاعفة ما قدمه العرب، حكومات وشعوباً، لنصرة القضية الفلسطينية طوال قرن من الزمان، فهل من ذل ومهانة وحماقة واستصغار للعقول والقلوب أكثر من هذا؟!المفارقة العجيبة الأخرى أن القضية الفلسطينية تم احتضانها بالمال والمقاومة العسكرية والتضحيات السياسية من قبل الحكومات القومية والليبرالية والعلمانية ومن التيارات والنخب ذاتها، ولكن ومع تقهقر وانكسار هذه الموجة وتصاعد نجم الأحزاب والتيارات الدينية تم بيع قضية القدس واستحقاقات مأساة فلسطين بأبخس الأثمان، وكأن بأمثال هؤلاء المشايخ وأرباب الفتاوى الموغلة في الدماء والأعراض لم يقرؤوا آيات القرآن حول الأقصى أو تناسوها عمداً مع سبق الإصرار!لكن يبقى للأقصى رجاله ونساؤه والمخلصون لقيمته الحقيقية في العقول والوجدان، وإن بقي هذا الصرح الشامخ وحيداً وغريباً في هذا الزمن الأغبر!