يضمّ معرضك الأخير «عودة بين الملموس والمتخيل» أعمالاً فنية من مراحل مختلفة، فهل يعُد معرضاً استعادياً؟يشكِّل المعرض عرضاً مختصراً جداً في صورة عرض متحفي استعادي يمثِّل محطات مهمة في مشواري الفني من النصف الثاني من الثمانينيات حتى الآن، وتلخص هذه الأعمال العلاقة بيني وبين الواقع المعاش بأبعاده الذاتية والعامة على مستوى الزمان والمكان بما يظهر أنه من علامات مدركة حسياً تعتبر في وجهة نظري مفاتيح للإبحار في ما وراء المرئي أو الملموس من أبعاد وأزمنة. أعتقد أن حالات فكرية وعاطفية تتكوّن في الذهن وتتبلور في صور يكون للعلامات المكانية نصيب كبير من مكوناتها وفق منهج تركيبي خيالي يؤلف بين تلك العلامات المكانية وبين المواقف العاطفية والأفكار وتزامناتها، فتكتسب العلامات دلالات رمزية تتجاوز دلالة مرجعيتها الطبيعية أو الواقعية.
بكارة الطبيعة
تمثِّل أعمالك محطات مهمة في علاقتك مع الفن والأماكن التي ترى أنها تسكننا. ما هي أبرز هذه المحطات؟تمثِّل هذه الأعمال محطات مهمة في مشواري الفني. تبدأ من نموذج من مشروع التخرج حيث دروب قاهرة المعز وحواريها والدراسة الأكاديمية، وهي فترة محملة بانحياز إلى التعبيرية، ثم مرحلة المنيا وكان الموضوع المسيطر الحياة والرحيل، ثم الانتقال إلى النقيض حيث تسيد موضوع العازفات والموسيقى كمرادف لشاعرية منشودة، وموضوعات أخرى مرتبطة بتصوير تلك المشاعر التي تبتهل إلى الحياة والحلم، وتبلور ذلك في فترة التسعينيات. بعد ذلك، كانت المحطة الكبرى واللقاء مع الأقصر وتمضية ثلاث سنوات في محاولة الإمساك بصوتها العميق الذي يجتاحني كلما تواجهت مع مشاهدها وعلاماتها، فهي مدينة جاذبة ومراوغة لا تبوح لك بأسرارها بسهولة، وبعد دراسات متأنية في علاماتها الظاهرة في إطار المنظر الخلوي، خصوصاً منطقة القرنة بالبر الغربي، كذلك مكونات المكان في سيوة وإنسانها، تحديداً المرأة وبكارة الطبيعة.عنونت أعمال معرضك، ما يحدّ ربما من قراءة المتلقي لها. لماذا لم تدعها من دون عنونة؟لا يحدّ العنوان الرؤية، بل يفتح مجالاً للتساؤل والحوار والمناقشة حول الفن من ناحية، وحول الأعمال وما تطرحه من رؤى ومضامين من ناحية أخرى. كذلك يفتح أبواب الحوار حول التجربة شكلاً ومضموناً، فعلاقتنا بما ندركه من واقع ملموس ربما لا تحقق طموحاتنا الإنسانية على بعض المستويات، لذلك نذهب بفكرنا ووسائطنا الإبداعية لنبتكر واقعاً آخر مأمولاً.المرأة والألوان الدافئة
للمرأة حضور قوي في أعمالك. ما السبب؟تشكِّل المرأة منذ فجر الإنسانية أقوى معادل للطبيعة الأم، وهي تكتسب في أعمالي دلالات متعددة. هي امرأة في زمن معاش ولها وجود حقيقي. ومن زاوية أخرى أرى أن التقدم المجتمعي ونضوج الثقافة المجتمعية تكمن في نظرة الجماعة إلى المرأة على أنها إنسان دون حصرها في وظائفها البيولوجية، سواء الحمل أو الولادة، أو الوظائف المنزلية الأخرى، وأشعر دائماً بقسوة ثقافتنا الاجتماعية على المرأة رغم دورها الحيوي في حمل أعباء هذه الأمة، فهي واهبة الحياة ومن مسببات استمرارها. تغلب الألوان الدافئة على معرضك الأخير، فهل يرجع ذلك إلى طبيعة الموضوع أو القضية التي تطرحها؟أميل إلى التوازن بين الألوان الدافئة والباردة. غير أن الألوان الترابية هي السائدة باعتبارها معادلاً للأرض والارتباط الشديد بالمكان. ورغم ذلك أميل في أعمال كثيرة إلى الألوان المشرقة والشفافة التي تتيح فرصة تصور الحالة الشعورية والفكرية، واللون عندي يُستخدم بطريقة رمزية إيحائية.اختزال الجمال
قال الفنان والناقد التشكيلي يوسف الشويحي عن معرض «بين الملموس والمتخيل» للفنان محمد عرابي: «أحد الأمور النادرة في عالم الفن التشكيلي أن يجتمع الفكر والفلسفة مع قواعد الفن الثابتة والراسخة منذ قديم الزمان، إذ جرت العادة أن يعبِّر الفنان عن فكرة ما أو فلسفة ما، فيدهم الأسس الفنية كافة دهماً اعتماداً على أنه يعبِّر عن مكنونات فكرية وفلسفية... لكن ما تراه في معرض الأستاذ الدكتور الفنان محمد عرابي على خلاف ما تعتقد أنك رأيته إلا نادراً، فهو يعبِّر بفصاحة عن فكرة غاية في التعقيد والشمولية وهي تلخِّص فلسفة حياة الإنسان ما بين الواقع الملموس والمحسوس الذي يعيشه، وما بين خيالاته التي تخطر في عقله في نومه وفي صحوه أيضاً، فالخيالات والرؤى لا تفارق الإنسان في شتى أوضاعه الحياتية، وما بين هذا وذاك يضمن الفنان محمد عرابي كل ما يخطر في بالك أن تصطدم به عينك في الحياة التي نعيشها ما بين الجميل والقبيح والباهت وشديد الوضوح والصارخ أيضاً... اللافت أنه عبَّر عن ذلك كله بمقاييس فنية غاية في الدقة في التناسق الحجمي واللوني ومراعاة الأبعاد... ناهيك عن السيمفونية اللونية التي تعزف في مسطحات هذه اللوحات والتي تساعدك على التأمل والتمعن بسلاسة وتنقلك من مربع إلى آخر في حالة من المتعة التي تكاد تمنعك من ألا تعاود رؤيتها... حقيقة ولوقت طويل لم أشاهد معرضاً يختزل الجمال في مكان واحد مثل هذا المعرض».يذكر أن الفنان محمد عرابي، تخرج في كلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان قسم تصوير عام 1984، وحصل على الماجستير والدكتوراه في فن التصوير. تدرج في العمل الجامعي إلى أن صار عميداً لكلية الفنون الجميلة في الأقصر، وأقام معارض فنية عدة في القاهرة وواشنطن ودمشق والإسكندرية، وغيرها من المدن العربية والأجنبية، ونال جوائز وتكريمات عدة.