فهم لغز الإنتاجية
هناك تحدٍّ رئيس سيواجه البنوك المركزية مع اقترابنا من تطبيع أسعار الفائدة، ألا وهو وضع إطار عمل للتفكير في تأثير السياسة النقدية على تخصيص رأس المال، وهذه مهمة عاجلة تستدعي التحرك السريع، لأن التداعيات الاجتماعية والسياسية لفترة مطولة من عدم الإنتاجية أو عدم وجود نمو حقيقي في الأجور ربما تكون بالغة الخطورة.
![بروجيكت سنديكيت](https://www.aljarida.com/uploads/authors/176_1682431716.jpg)
هناك عوامل عدة أسهمت في هذه المشكلة واعترف بها الجميع، فخلال الأزمة والفترة التي تلتها مباشرة، وهي الفترة التي شهدت تقييد عمليات الإقراض الجديدة في ظل جهود البنوك لإعادة بناء رأس المال، ساعدت أسعار الفائدة المنخفضة للغاية بعض الشركات في تسيير أمورها، وأبقى مديروها على الموظفين رغم العوائد المنخفضة نسبيا.في المقابل، واجهت الشركات الجديدة المبتكرة والأكثر إنتاجية صعوبات في جمع رأس المال الذي تحتاجه للنمو، مما اضطرها لوقف توسعاتها أو إبدال العمالة برأس المال، بمعنى آخر تسببت أسعار الفائدة المنخفضة في تقليل الإنتاجية من خلال إتاحة الفرصة للشركات الحية الميتة الغارقة في الديون للاستمرار وقتا أطول مما كان ينبغي لها.وقد اعترف بنك إنكلترا بهذه المقايضة، حيث ذكر في تقديراته أن الإنتاجية كانت ستزيد بمقدار 1% إلى 3% لو رفعت بريطانيا أسعار الفائدة في فترة التعافي إلى مستويات ما قبل الأزمة، لكنهم في الوقت ذاته يعتقدون أن العواقب المترتبة على ذلك- والتي تتمثل ببطء نمو الدخول وارتفاع البطالة- كانت ستعتبر غير مقبولة.وقد امتد الجدال حول هذه القضية الآن ليتجاوز النظام المصرفي إلى أسواق المال ذاتها، وادعى منتقدو البنوك المركزية أن وجود سياسية ثابتة بخفض أسعار الفائدة بهذا الشكل الاستثنائي، مع تعزيزها بجرعات ضخمة من التيسير الكمي، قد تتسبب في رفع أسعار الأصول بلا تمييز، ولم تنحصر الآثار العكسية لهذه السياسة في توزيع الثروة فحسب، بل حَدَّت أيضا من قدرة أسواق المال على التمييز بين الشركات المنتجة والواعدة، وتلك التي تستحق الفشل. ووفقا لهذا الرأي فقد رفع المد كل القوارب حتى التي لا تصلح للملاحة من الأساس، (مصائب قوم عند قوم فوائد)، ولا تخلو هذه الحجة من بعض القوة التفسيرية، رغم إيجازها عندما يتعلق الأمر بالقيمة التي أضافها مديرو الأصول من ذوي الأجور العالية، وبمدى استعداد هؤلاء المديرين فعليا لتشغيل واستثمار أموالهم على أساس تأثير سياسة نقدية معينة على الأسعار النسبية فقط، دون اكتراث باستراتيجيات الشركات الفردية وأدائها، لكن القضية الرئيسة التي يثيرها أصحاب هذا الرأي تتعلق بالتدابير الواجب اتخاذها حيال هذا الأمر. هل كان من الأفضل حقا تشديد السياسات في وقت مبكر جدا للقضاء على الشركات الضعيفة لهدف تحسين الإنتاجية؟ أجاب بنك إنكلترا بوضوح عن هذا السؤال، كما أجابت البنوك المركزية الأخرى ضمنيا، بأنها لا تعتقد ذلك. وقد يمثل استخدام الأدوات المتاحة لمنظمي الأسواق بشكل أقوى نهجا مفضلا لحل المشكلة، إذ تميل هذه الهيئات للتركيز على حماية المستثمرين أكثر من تركيزها على الكفاءة التخصيصية للأسواق التي تشرف عليها، ولا شك أن حماية المستثمرين أمر مهم، لكن كما أوضح يوجين فاما رجل الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، فإن «الدور الأساسي لسوق المال يكمن في تخصيص ملكية أسهم رأسمال الاقتصاد».ومن شأن أي جهة تنظيمية تركز على هذا الهدف أن تتسم بالصرامة في الإشراف على الكشف عن المعلومات بشفافية، وأن تسعى إلى تشجيع المنافسة القوية بين الشركات، وأيضا بين المستثمرين، وهو ما يمثل عنصرا حيويا لهذا الهدف. ولا ينبغي أن يكون من المقبول حصول مديري الأصول على عوائد باهظة مقابل متابعة مؤشرات السوق.لا شك أن هناك أبعادا أخرى للغز الإنتاجية، وربما يكون قياسنا للإنتاج غير دقيق، فمع زيادة اعتماد الاقتصادات المتقدمة على الخدمات، أصبحت قياساتنا للإنتاج أقل موضوعية، وهناك كثير من صناعات الخدمات يعتمد فيها القياس الفعال لنسب الإنتاج على المدخلات، وقد لا تشمل قياساتنا التحسينات في الجودة، مما قد يعني التقليل من زيادات الإنتاج الفعلية، وربما نكون قد وصلنا إلى نقطة أُنهكت عندها الانتعاشة الإنتاجية المستمدة من التكنولوجيا المعتمدة على الإنترنت، وصرنا بحاجة إلى قفزة تكنولوجية أخرى للتحرك قدما مرة أخرى.بيد أن هناك تحديا رئيسا سيواجه البنوك المركزية مع اقترابنا من تطبيع أسعار الفائدة، ألا وهو وضع إطار عمل للتفكير في تأثير السياسة النقدية على تخصيص رأس المال، وهذه مهمة عاجلة تستدعي التحرك السريع، لأن التداعيات الاجتماعية والسياسية لفترة مطولة من عدم الإنتاجية أو عدم وجود نمو حقيقي في الأجور ربما تكون بالغة الخطورة، بل لعلها كانت بالفعل من العوامل التي سببت الاضطرابات السياسية في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا.* هاورد ديفيز* رئيس «رويال بنك أوف أسكتلندا».«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»