اختار البروفسور سامي ريشا النص الأدبي بدلا من الدراسة العلمية ليتناول معاناة الأطفال المصابين بمتلازمة «داون» وكل إعاقة، والرواية عوضاً عن التقرير الطبي ليرسم ملامح الأهل الذين يكرسون أنفسهم لأولادهم هؤلاء، مستنداً على تشخيص هذه الحالات ليدخل في عمق الشخصيات وأحوالها.

Ad

حالة نموذجية

يجمع ريشا في كتابه بين خبرته المهنية الطبية وعشقه للأدب واللغة الفرنسية تحديداً، فكانت الحصيلة رواية مؤثرة حول والد طفل مصاب بمتلازمة «داون».

يوضح ريشا أن هذه القصة يمكن أن تكون قصة أي أب أو أم لطفل يعاني الإعاقة وليست قصة حالة واحدة أو شخص معين، بل حالة نموذجية مكونة من مجموعة حالات، تشكل رسماً لشخصية طفل مصاب بإعاقة، ولشخصيتي والديه.

تابع ريشا حالات مماثلة، «ويمكنني أن أكتب دراسة أو بحثاً علمياً حول الموضوع، لكنني أردت أن أضع الخلاصات التي توصلت إليها في قالب أدبي روائي، لأن الدواء الأهم للطفل ولأهله، في مثل هذا الوضع، هو العاطفة الإنسانية التي لا يمكن أن تعكسها دراسة طبية، بل تتجلى في الرواية والأسلوب الأدبي»، على حد تعبيره.

يتمحور الكتاب حول رجل كرس نفسه لابنه إريك الذي ولد حاملا كروموزوم 21 (التثالث الصبغي). في البداية تنتاب الوالد مشاعر متناقضة، تتراوح بين الكراهية والحب، وبين خيبة الأمل والتسليم بالأمر، فيبحث عن تفسير لهذه الإعاقة التي لم يكن مستعداً لها.

ومما أورد ريشا في روايته، على لسان الأب: «خرجت من الكنيسة بسرعة وأنا أفكر في الأب الذي يستحق هذه الصفة (...)، ويكون أباً حتى الرمق الأخير، ويستطيع أن يتحمل هذا التحدي لأبوته (...). كان علي أن أتأقلم مع حالتي الجديدة كأب لطفل مصاب بإعاقة، والقبول بقدري وإعادة توجيه حياتي. بعد اليوم، لن يبقى شيء كما كان من قبل. علي أن أتقبل المصيبة التي حلت علي وعلى عائلتي، وأن أخوض التحدي. حياة إريك مرهونة من الآن فصاعدا بقدرتنا على تحسينها له. كان علي الخروج من حال السبات لكي أؤمن له أياماً أفضل طوال حياته (...). امتحان الشجاعة يحصل عند التجربة. المهمة التي تنتظرني جبارة. في حياتي المستقبلية كوالد لطفل مصاب بإعاقة، ثمة أمور محرمة يجب ألا تكون موجودة في قاموسي، كالاستسلام، والضعف، والتراجع، والإذعان. باختصار، لا يمكنني أن أسمح لنفسي بترف الاكتئاب».

رحلة حب

يرافق القارىء إريك في خطواته الأولى، ثم في حياته المدرسية، ويواكبه ابتداء من طفولته حتى تقدمه في السن، من خلال تصرفاته في السوق كما في المسرح، وفي كل مكان وظرف، ويرافقه في حبه الأول. وعبر الصفحات، يعيش القارىء في قلب معاناة هذا الطفل، وفي قلب مشاعر الوالد المكرس بالكامل لابنه، ويتعرف إلى موقف والدة الصبي وما خبرته شقيقاته.

يقول الأب: «إريك كلمة من أربعة أحرف هي بالنسبة إلي مرادف للحب والحنان. أربعة أحرف تجعل مني، في الوقت ذاته، أسعد الآباء وأتعس الرجال (...). أربعة أحرف لثلاثة كروموزومات أحدها زائد عن اللزوم. أربعة أحرف تغير حياتي وثلاثة كروموزومات غيرت حياتك (...). الآخرون الذين ينظرون إلينا من بعيد، يشعرون بالشفقة على ابني إريك وبالحنان على أهله. ولكن أنا، كأب لطفل مصاب بمتلازمة داون، أبحث بلا كلل، في أبسط حركاته في نظرته الشاحبة ولكن الثاقبة (...)، عن الزخم اللامحدود لطفل مفعم بالطاقة. هكذا أمضي أيامي ليل نهار مع الآخرين ومع نفسي».

نبذة

البروفسور سامي ريشا من مواليد عام 1969، هو رئيس قسم طب النفس في مستشفى «اوتيل ديو» في بيروت ورئيس قسم طب النفس في كلية الطب في جامعة القديس يوسف في بيروت واستاذ فيها، ورئيس الجمعية الفرنكوفونية للمصابين بأمراض نفسية.

نال دكتوراه في أخلاقيات علم الأحياء عام 2009 في كلية الطب في جامعة «إيكس مارساي» في فرنسا. صدر كتابه الأول «طب النفس في لبنان- تاريخ ونظرة عن دار ضرغام عام 2015، وهو يتألف من قسمين: في الاول يتوقف المؤلف بإسهاب عند تاريخ طب النفس في لبنان منذ العام 1900، وفي الثاني، يتناول، وفق رؤية إنسانية، ظروف الأمراض النفسية كالفصام والإدمان والإعاقة العقلية، ويتناول كذلك المثلية الجنسية، والمؤثرات العقلية.