العراق ينهي «دولة داعش» على أراضيه
معركة الموصل تقترب من نهايتها بعد أشرس قتال منذ 1988
رغم ما أحاط بالمعركة من انتهاكات وفظائع دفع المدنيون ثمنها غالياً، حقق العراق أمس انتصاراً واضحاً لا لبس فيه، إذ تمكن من إنهاء وجود «داعش» فعلياً ككيان يسيطر على أراض ويسيّر أمور السكان، وذلك بعد سقوط التنظيم عسكرياً في مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى الشمالية. وأعلن العراق، على لسان رئيس الحكومة حيدر العبادي ووزارة الدفاع، أن «دولة داعش انتهت» وسقطت عسكرياً، بعد تطهير الجامع الكبير وبقايا المئذنة الحدباء التاريخية في الساحل الأيمن للموصل، إذ لم يبق هناك أي خط دفاع أو استحكامات للتنظيم المتطرف، وتحول مَن بقي من عناصره إلى مجرد مسلحين بلا مخابئ يتنقلون بين أنفاق وأزقة مهدمة، وهو ما أنهى أيضا معاناة ربع مليون مدني كانوا يعيشون في قلب المدينة القديمة.وقال العبادي إن «إعادة الجامع إلى حضن الوطن، إعلان لانتهاء دويلة الباطل»، متوعداً مَن بقي من مسلحي التنظيم بمطاردة لن تنتهي إلا بـ«القضاء على آخر داعشي في العراق».
أما وزارة الدفاع فقالت، في بيان لها، إن «داعش انتهى في الموصل» بعد السيطرة على الجامع الكبير، حيث أعلن خليفة التنظيم أبوبكر البغدادي دولته قبل ثلاثة أعوام في يونيو أيضاً.وسبق أن وصف الجنرال عبدالوهاب الساعدي أبرز القادة في قوات النخبة العراقية، معارك الموصل بأنها أشرس قتال يخوضه الجند منذ معارك شرق البصرة نهاية الحرب مع إيران عام 1988، يوم لقي نحو مئة ألف مصرعهم من الجانبين.وكان الجيش الحكومي في يونيو 2014 قد انهار في أربعة أيام، وسقطت ثاني أكبر مدينة في البلاد بيد تنظيم «داعش». ويقاتل العراقيون منذ 8 أشهر لاسترداد الموصل التي فيها نحو 1.5 مليون مدني اتخذهم التنظيم دروعاً بشرية، وجعل تحرير تلك المدينة يشبه عملية طويلة لإنقاذ مئات الآلاف من الرهائن. ولم تكن عملية تحرير المدينة، التي أعلنها «داعش» عاصمة لخلافته ومقراً لتدريب عناصره وتطوير أسلحة ثقيلة وكيماوية، لتنتهي لولا دعم تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة، إلى جانب عمليات تأهيل فعالة لعشرات الآلاف من قوات النخبة المسماة جهاز مكافحة الإرهاب، وهو تشكيل متخصص في حرب الشوارع والانتشار التكتيكي، أثار أداؤه اهتمام الخبراء الدوليين.ولا توجد إحصائيات رسمية لعدد الضحايا، غير أن المصادر تتحدث عن بضعة آلاف مقاتل لقوا مصرعهم، ونحو 15 ألف مدني فقد معظمهم حياته في عمليات القصف التي أتت على معظم البنى التحتية في الجانب الغربي من الموصل.ويقول الضباط العراقيون إنه لم يسبق لتنظيم «داعش» أن قاتل بهذه الشراسة في معارك كثيرة منذ 2014، ولعل أبرز ما فاجأ المراقبين هو العدد المهول من العمليات الانتحارية التي نفذها مقاتلون محليون وأجانب في التنظيم، إذ شهد الشهر الأول من القتال وحده نحو 800عملية كبدت القوات الحكومية خسائر كبيرة وأدت إلى هدم منازل المدنيين على رؤوس ساكنيها.وعبر التاريخ شكلت الموصل محطة تجارة دولية لوقوعها على شاطئ دجلة، حيث كانت تستقبل القوافل البرية والسفن القادمة من الخليج العربي والبصرة، ومثلت مركزاً حضرياً تتنوع فيه القوميات والديانات ومستوى التمدن والتحديث الذي كانت له مساهمة رائدة في بناء عصر النهضة العربي فكرياً وسياسياً، ولذا حظي الموصليون في هذه المعركة بأبرز موجة تعاطف عراقي ودولي، من المنتظر أن تتحول إلى مساهمات فاعلة في إعادة إعمار المدينة وآثارها المسيحية والإسلامية القديمة.لكن تحرير الموصل لن يعني سوى بداية مرحلة مليئة بالتعقيدات، فالأطراف الكردية والعربية، والشيعية والسنية، وتأثيرات الفاعلين إقليمياً ودولياً، تمتلك سيناريوهات متناقضة لصوغ مستقبلها السياسي والأمني، فهي، بوصفها أكبر تجمع حضري للعراقيين السنة، تتطلع إلى صلاحيات إدارة محلية واسعة لتضمن عدم تكرار أخطاء عهد رئيس الحكومة السابق نوري المالكي المتهم بأنه أدارها بنخبة ضباط مارسوا القمع وقيدوا نخب المدينة، وأحدثوا شرخاً بين بغداد والمناخ الاجتماعي في الموصل.ويبدي المحور الشيعي الموصوف بالاعتدال والمقرب من مرجعية النجف ورئيس الحكومة حيدر العبادي، نوايا حسنة تجاه الموصل، غير أن المدينة لا تزال نقطة تصادم بين محور إيران ـــ روسيا، وأميركا ـــ تركيا، ويتدخل في زيادة مستوى الاستقطاب هناك وجود أقليات مسيحية وأيزيدية تعرضت إلى إبادة على يد «داعش»، في حين ينقسم المجتمع الموصلي وحزام القبائل العربية المحيطة بها فيما يعرف بمحافظة نينوى التاريخية، أشد الانقسام، وسط قلق من أن يؤدي التدخل الإقليمي إلى مضاعفة موجة انتقام داخلي بدأت تظهر فعلاً وتعرقل محاولات استعادة الاستقرار.أما فلول «داعش»، ورغم الضربة القاصمة التي تعرض لها التنظيم، فسيواصلون عملهم في استهداف المدنيين بعمليات انتحارية تأخذ طابع الانتقام والثأر، الأمر الذي اعتاد عليه العراقيون طوال أعوام، وبدأ يتسلل إلى عواصم ومدن غربية، إذ سيبقى التطرف يهدد العالم سنوات.