استراتيجية الفوضى الأميركية في العراق
على الرغم من التحذيرات المتكررة التي وجهها مركز الدراسات الاستراتيجية الأميركية إلى إدارة باراك أوباما حول التطورات السياسية والأمنية الخطيرة في العراق، وعجز الحكومات العراقية المتعاقبة بعد 2003 عن إيجاد مخرج للأزمات القائمة التي تهدد وحدته واستقراره وضرورة عدم إهمال هذه الدولة المثخنة بالفساد والمفسدين والصراعات الطائفية والعرقية، وضرورة مساعدتها العاجلة لتخرج من محنتها وتعود إلى وضعها الطبيعي، على الرغم من ذلك فإن أميركا لم تمد يد المساعدة إلى العراق لتنتشله من المستنقع الآسن الذي أوقع نفسه فيه. وحتى لو تحول العراق إلى ضيعة إيرانية وأصبح تابعا لها، كما هو حاله اليوم، فإن المهم أن تغوص المنطقة في مستنقع الصراعات والأزمات التي لا تنتهي، وطبعا المستفيد الأكبر في هذه الدوامة الجهنمية، هما أميركا وإسرائيل، ولا يمكن أن يتحقق مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي ظهرت أولى بوادره مع اندلاع ثورات الربيع العربي (الفوضى الخلاقة)، من دون وجود صراع فكري وعقدي كبير في المنطقة.
الكثير من السياسيين العراقيين مازالوا يلقون بتبعة ما يجري في العراق على عاتق الأميركيين، منذ قيامهم بحل الجيش العراقي بعد غزوهم للعراق عام 2003 إلى انسحابهم عام 2011 في ظروف حرجة كان العراق في أمس الحاجة إلى دعمهم ومساعدتهم، ومن دون أن يقوموا بإعمار مدينة واحدة من الخراب الذي لحق بها، كما وعدوا، وطوال السنوات الثماني التي احتلوا فيها العراق لم يشاركوا العراقيين في حل أي قضية من القضايا الاستراتيجية المهمة التي تؤثر في مصير البلاد ومستقبلها بصورة مباشرة كقضية مدينة كركوك الغنية بالنفط، والأراضي الحدودية المتنازع عليها بين إقليم كردستان والحكومة المركزية التي عالجتها المادة 140 من الدستور العراقي، ولكن بغداد تجاهلتها ولم تطبقها حتى الآن، وعلى أثر ذلك تدهورت العلاقة بين الجانبين، وكادت تحدث مواجهة عسكرية محتدمة بينهما عام 2008 في مدينة «خانقين»، وكذلك عام 2012 في مدينة كركوك، ولولا وصول الطرفين في آخر لحظة إلى اتفاق للتهدئة لحدثت مجزرة عرقية رهيبة. في هذه اللحظة الحاسمة أعلنت السفارة الأميركية في بغداد حيادها حيال الأزمة وسحبت نفسها منها واعتبرتها مشكلة داخلية لا علاقة لها بها، وكذلك فعلت أميركا مع الحرب الأهلية الطائفية التي استمرت ثلاث سنوات (2006 إلى 2008) وراح فيها مئات الآلاف من العراقيين، دون أن تحرك ساكنا للحؤول دون وقوع الفتنة الطائفية الكبرى، وكان بإمكانها فعل الكثير لأنها كانت على رأس السلطة الفعلية في العراق آنذاك، ولكنها أخذت دور المتفرج، وكذلك موقفها اللامبالي غير المسؤول من سياسة المالكي العدوانية حيال الكرد، وفرض الحصار الجائر عليهم دون أي مبرر قانوني أو سند دستوري زاد من القناعة بأنها جاءت إلى العراق والمنطقة لبث الفوضى ونشر الأزمات لا تكريس الديمقراطية وتحقيق الإصلاح.