سطوة «إياﮔو»
حجزتُ قبل يومين تذكرةً لأوبرا "عطيل" التي سأحضرها مساء هذا اليوم. نقلٌ حي عن دار الأوبرا الملكية/ لندن إلى شاشة السينما. كانت "عطيل" هي الأوبرا القبل أخيرة التي يضعها الإيطالي ﭭيردي Verdi (1887)، بعد أن انقطع عن التأليف خمسة عشر عاماً. انتفع قبلها من شيكسبير في عمله "ماكبث" و"فالستاف"، ولكنه حاول "الملك لير" ولم يُنجزها. أعماله الشيكسبيرية جميعاً من الروائع، ولقد خبرتها مراتٍ عدة، ولكن "عطيل" هي المفضلة لديَّ، بفعل الحضور الثقيل لشخص "إياﮔو" Iago، الذي لا يؤمن إلا بإله بالغ القسوة. في أعمال درامية عديدة يبدو الشر المُشخصن أبلغ درامية وتأثيراً من الخير المُشخصن. خذْ "مًفيستَفيليس" ﮔوته في عمله "فاوست"، أو "شيطان" الشاعر الانكليزي "مِلتون" في عمله "الفردوس المفقود"، أو "ماستر" الروائي الروسي بولـﮔاكوف في روايته "السيد ومارﮔريتا"، أو "إيـﭭان" ديستويفسكي في "الأخوة كرامازوف".. إنهم جميعاً خلاقو العنصر الدرامي في العمل الإبداعي، حتى ليبدو خلاقو الخير تحت ظلالهم. بالرغم من أن عمل شيكسبير Othello يروي حكاية القائد "الـﭭينيسي" مع مشاعر الغيرة والشك في بحران حبه العميق لدَزدمونة، حتى أصبح رمزاً لها، إلا أن بؤرة الشر "إياﮔو"، رافع رايته العسكرية، هي التي تزوّد كل عناصر العمل الشيكسبيري بحرارة الدراما وبحلكة ليلها العميقة. الموسيقي الإيطالي ﭭيردي (1813- 1901) لم يحرف توجه شيكسبير، بل كرّس الانفعال فيه بفعل ما تتمتع به الموسيقى من قدرات على تجسيد الانفعال. وضع العمل الموسيقي في فصول أربعة، استحوذ إياﮔو على الفصلين الثاني والثالث، وتوزع كالسر على الفصلين الأول والرابع. لقد سحب عطيل من عليائه، بالكلمة لا بالسلاح، وألقاه بين قدميه بفعل ضغينة دفينه. في آخر الفصل الثالث، حين يبلغ عطيل ذروة انهياره النفسي، تحت وابل اضطراب الأوركسترا، وينهار على الأرض، يقف إياﮔو فوقه ويحاصر رأسه بقدميه. هنا تبلغ أغنيته المنتصرة غاية عتمتها، في حين تتعالى النحاسيات مع صوت الكورال بلحن مهيب من أجل عطيل.
في الأوبرا، عبر الفصول الأربعة، بضعة ألحان متميزة ومشهورة، من الأوركسترا، الكورس، والشخوص الأساسية. ولقد وزعها ﭭيردي بفطنة؛ أعطى عطيل طبقة "تينور" الصداح، وأعطى إياﮔو طبقة "باريتون" الوسطى، وديزدمونة طبقة "سوبرانو"، في حين لم يُهمل طبقة "ميتسوسوبرانو" النسائية الوسطى، أو "الباص" الرجالي الخفيض، فوزعها على بعض الشخوص الثانويين. يبدأ الفصل الأول بمشهد "العاصفة" The Storm الليلي. الكورس يحتفي باستقبال القائد عطيل، المنتصر على الأتراك. حتى ليبدو لحن العاصفة تمثّلاً للمشاعر العاصفة التي ستُلم بقلب وعقل عطيل فيما بعد. إنها أشبه بتهيئة الجمهور للفصول التالية. في الفصل ذاته تتميز "أغنية الكأس" The drinking Song التي يؤديها إياﮔو، مضمخة في ظاهرها بمعانقة الحياة، ولكنها مشوبة بإغواء "كاسيو" على الشرب والتعلق بدزدَمونة. ثمة أغنية ثنائية رائعة بين عطيل ودَزدَمونة، يوم يستكين إلى غرفة نومهما: "والآن في الليل العميق تتلاشى كل ضوضاء..."، تصحب آلاتُ التشلو صوتَ عطيل، في حين تصحب دزدَمونة آلاتُ الـﭭايولين والـﭭيولا، يسلمانهما لقبلة دافئة. في ليل الجريمة، عند الفصل الرابع، تغني دزدمونة على سريرها أجمل ألحان الأوبرا "أغنية الصفصاف" The Willow Song: "الصفصاف الجنائزي سيكون إكليلي..."، وكأنها تضع لمسات الدموع على سنوات مسراتها مع عطيل. أعرف موسيقى "عطيل"، وأعرف الحان أغانيها، ولكني ألفتها مع أصوات بعينها؛ ﭙاﭭاروتي، دومنـﮔو، مارﮔاريت ﭙرايْس، رينيه فليمنـﮒ، ريناتّا سكوتّو، وغيرهم الكثير. مساء هذا اليوم ينتظرني مُعبّأ بأصوات أعرفها، ولكن في أعمال غير "عطيل" ﭭيردي. خاصة التينور الألماني الفائق الروعة يوناس كاوفمان Jonas Kaufmann، الذي اختاره قائد الأوركسترا الإيطالي أنتونيو ﭙاﭙّانو بفعل ما تتميز به حنجرته الصداحة من ظلال غامقة، تلائم روح عطيل. أما السوبرانو الإيطالية ماريا أﮔريستاMaria Agresta، التي ستغني دور دزدمونة فجديدة علي تماماً. تركت عناوين الأغنيات الأساسية للقارئ بالإنكليزية، إذا ما أراد مراجعتها في موقع اليوتيوب.