الدستور هو القانون الأساسي الأعلى الذي يرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم ويحدد السلطات العامة، ويرسم لها وظائفها، وهو كفيل الحريات وموئلها وعماد الحياة الدستورية وأساس نظامها، ولهذا تستوي نصوصه ومبادئه على القمة من البناء القانوني للدولة، وتتبوأ مقام الصدارة بين قواعد النظام العام باعتبارها أسمى القواعد التي يتعين على الدولة التزامها في تشريعها وفي قضائها وفيما تمارسه من سلطات.

وتبسط المحكمة الدستورية رقابتها على دستورية القوانين، إلا أن هذه الرقابة تظل كامنة إلى أن يحركها دفع بعدم دستورية النص القانوني يدفع به أمام أي محكمة تطبق النص على النزاع المطروح أمامها، فتحيله إلى المحكمة الدستورية، إن اقتنعت بجديته.

Ad

الدعوى الأصلية أمام «الدستورية»

هكذا كان الأمر في مصر ولا يزال منذ إنشاء المحكمة الدستورية في عام 1969، كما كان كذلك في الكويت منذ إنشائها في عام 1973 حتى صدور قانون أجاز التداعي أمام المحكمة الدستورية بدعوى أصلية، وإن اشترط لقبول هذه الدعوى أداء تأمين نقدي مبالغ فيه بعض الشيء، ليقصر رفعها على المواطنين وحدهم، ودون الوقوع في حومة مخالفة مبدأ المساواة أمام القانون والقضاء، أو اختراق المبدأ القاضي بكفالة حق التقاضي للناس كافة، إذ نص القانون صراحة على قصر الدعوى الدستورية على المواطنين وحدهم، والسواد الأعظم من المقيمين لا يملكون هذا التأمين، فضلا عن خشيتهم من الترحيل، الذي هو سيف مصلت عليهم، ومع ذلك يصبح حق التقاضي أمام "الدستورية" بالدعوى الأصلية سلعة غالية المنال حتى بالنسبة إلى الكثير من الكويتيين.

قوانين مخالفة للدستور ومحمولة على الصحة

ولذلك تبقى كثير من القوانين المخالفة للدستور محمولة على الصحة، ولعل من هذه القوانين التي ظلت مطبقة لمدة طويلة في مصر قانون الطوارئ الذي ظل منذ صدوره محمولا على الصحة، إلى أن فجر المحامي البارع خالد علي قنبلته المدوية بعدم دستورية أحد نصوصه التي تجيز لرئيس الدولة إحالة بعض المتهمين في أي قضية إلى محكمة خاصة أو استثنائية.

قانون الإجراءات الجزائية دستور حقيقي

ومن بين هذه القوانين كذلك قانون الإجراءات الجنائية في مصر الذي صدر في عام 1950، وقانون الإجراءات الجزائية في الكويت الذي صدر في عام 1960، وظلا مطبقين في مصر والكويت منذ صدورهما محمولين على الصحة بالرغم من أن كليهما لا يتيح الحماية الحقيقية للمتهم في محاكمة قانونية عادلة ومنصفة تتوافر فيها فرصة الدفاع عن نفسه، مع كفالة الضمانات اللازمة لذلك، متنكيا المبادئ الدستورية المقررة لهذه الضمانات وعندما تتخلى النيابة العامة عن دورها في البحث عن الحقيقة وفي تقييم أدلة الاتهام، ولا تحقق المحكمة دفاع المتهم في قضايا تستحق، لذلك قيل بحق إن قانون الإجراءات الجزائية دستور حقيقي يحفظ للحاكم رغبته المشروعة في تتبع الجريمة وملاحظة المجرمين والقصاص للمجتمع من الذين يعكرون صفو النظام العام، وكذلك يحفظ أيضا للمتهم البريء رغبته المشروعة في ألا ينال من إجراءاته عنت أو إرهاق، أو التواء قصد أو انحراف غاية، لدى فرد من الأفراد.

جرائم يدان فيها المتهم بغير محاكمة

وما أكثر الجرائم التي يدان فيها المتهم بغير محاكمة في عالمنا النامي، وقد تناولت من هذه الجرائم في مصر جرائم سرقة التيار الكهربائي، التي تكره السلطة في مصر التصالح فيها ودفع غرامة مالية كبيرة، دون أن تحققها النيابة العامة، اكتفاء بالبلاغ المقدم من أحد رجال مباحث الكهرباء، وهي الجرائم التي تناولتها في مقال نشر لي على صفحات الأهرام في عددها الصادر في 16 ديسمبر 2009.

كما تناولته في مقالي الأسبوعي على صفحات "الجريدة" تحت عنوان "ثقوب في ثوب العدالة" بتاريخ 11/ 5/ 2015 والذي استعرضت فيه التصالح الذي يفرض جبراً على المقيم في مخالفات لقرارات صادرة تنفيذ لقانون الإقامة، لم يجرمها المشرع أصلا.

التصالح بالابتزاز في مصر

ولكن ما اكتشفته أخيرا في مصر أن بعض المحامين الذين فقدوا شرف مهنة هي من أشرف المهن لأنها تحمل رسالة نبيلة هي الدفاع عن المظلوم، تجردوا من شرفهم لابتزاز المواطنين المقيمين خارج البلاد، باستخدام توكيلات صادرة لهم من بعض الموكلين الأجانب، والذين قد غادروا البلاد أو في نيتهم المغادرة، بتقديم بلاغات من قبل المواطنين المغتربين، بأنه تسلم أمانة مالية كبيرة من الأجنبي ليوصلها إلى آخر فاختلسها لنفسه.

ويتولى أمين شرطة التحقيق في البلاغ وعرضه على النيابة العامة التي تحيله إلى المحكمة في دون تحقيق، ويتم إعلانه بطريق الغش على عنوان في مصر، ويصدر حكم غيابي بحبس المواطن المغترب سنة أو أكثر.

ويبدأ المحامي بابتزاز المواطن المغترب، فإن فشل في هذا الابتزاز وسافر المواطن إلى مقر عمله فقد يصدر في غيابه حكم بحبسه سنة أو أكثر، فيتم القبض عليه ويعارض فيه، وتتم تبرئته ويفلت المحامي من العقاب لأن موكله الأجنبي قد غادر البلاد، إلا أن المواطن المغترب قد يفاجأ عند حضوره بعد سنوات لاستخدام حق من حقوقه الدستورية، سياسية أو وظيفية، بأنه قد صدر في غيابه حكم بحبسه في هذه الجريمة، يحرمه من التمتع بهذه الحقوق لأنها جريمة مخلة بالشرف والأمانة، ويعارض المواطن المغترب في الحكم إلا أن المحكمة تقضي بانقضاء الدعوى الجنائية لانقضاء ثلاث سنوات على صدور الحكم بعد أن يكون الحكم قد استنفد أغراضه في تدمير مستقبل المحكوم عليه بالإدانة وظيفيا وسياسيا أحيانا، فإذا كان المتهم شخصية عامة، فلا يقتصر الحكم على الحط من قدره في المجتمع بين من يعرفونه من الناس وحرمانه من حقوق يستمدها من الدستور أو القانون، بل سيحط من قدره كشخصية عامة بما سيتداوله الناس عموما عن سوء سيرته وسمعته بسبب هذا الحكم.

افتراض البراءة في الإنسان

ولا يختلف قانون الإجراءات الجزائية الكويتي عن القانون المصري في ذلك، لأن كليهما يجعلان المبلغ هو صاحب القدح المعلى والأولى بالحماية، لأن نظامنا القانوني والقضائي يقوم على أن الأصل هو أن المتهم مدان حتى تثبت براءته بالمخالفة للمبدأ الدستوري، الذي ينص عليه كل من دستور مصر في المادة (96) ودستور الكويت في المادة (34) واللذان ينصان على أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، في محاكمة قانونية، تؤمن له فيها كل الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع.