كيف يمكن أن نصف الحالة الإعلامية العربية الراهنة بأنها "حالة انكشاف"، رغم وجود عشرات الفضائيات والمواقع الإلكترونية والصحف التي تغطي تطورات الأحداث، وتحللها، وتعلق عليها؟لا يحظى مجتمع أو دولة أو إقليم بتغطية إعلامية مناسبة لمجرد توافر عدد كبير من الأقنية والوسائط التي تنشغل بقضاياه، لكن تلك التغطية تحدث، وتكون فعالة، عندما تلبي "الاعتماد".
وببساطة شديدة، فإن وجود تلك الأسماء البراقة في سماء البث الفضائي العربي لا يعني شيئاً، طالما أن المواطن العربي يضطر آخر اليوم إلى اللجوء لفضائية أجنبية تبث باللغة العربية، لكي يعرف ما الذي يحصل في فناء داره.ومفهوم "الاعتماد" يعني ببساطة أن تلبي الوسائط الإعلامية المحلية حاجة الجمهور إلى التزود بالأخبار والمعلومات والتحليلات، التي تقع في إطار اهتماماته، وإذا فشلت تلك الوسائط المحلية في القيام بدورها هذا، فإنها بذلك تكون قد فقدت أهم أسباب وجودها.وعندما تخفق الوسائط المحلية في الوفاء بدورها الرئيس، فإن الجمهور لا يتسامح معها، ويكتفي بما تجود به عليه، لكنه يذهب مباشرة إلى "عدو" أو "منافس" أو "نظير" إعلامي آخر، ويأخذ منه ما ينقصه من معلومات وتحليلات، لكي يوازن ما بات لديه منها، ولكي يتعرف على جوانب آخرى من الصور والقضايا التي يريد تقصي تطوراتها.نُسمي هذه الحالة بـ"الانكشاف الإعلامي"؛ إذ يفتح المواطن العربي عينيه على "كثير" لكنه للأسف الشديد "لا يرى شيئاً"، وبالتالي يذهب إلى وسائط إعلامية وافدة لتلبي مطالبه وتسد حاجاته.لقد اندلعت الأزمة بين قطر من جانب والسعودية والإمارات ومصر والبحرين من جانب آخر، فما كان من هذه الدول مجتمعة إلا أن سخّرت وسائل الإعلام التابعة لها والواقعة في إطار نفوذها لتصبح مجرد "أدوات دعاية" في المعركة السياسية الملتهبة.نحن ندرك أن الدول العربية تطور الوسائط الإعلامية، وتستثمر فيها، وتنفق عليها، وتسخر لها الجهود، لكي تكون صوتاً لها في أوقات الأزمات، لكن هذا الأمر له أثمان؛ إذ إنه يحول تلك الوسائط من كونها وسائل إعلام إلى مجرد أدوات دعاية، وبالتالي تفقد قدرتها على إقناع الجمهور، الذي يذهب بدوره إلى مصادر أخرى لسد حاجاته الإعلامية.وبصرف النظر عن تفاصيل المعركة السياسية الدائرة راهناً، وبعيداً عن مسارات تأزمها وحلها، فإن تسخير كل الوسائط الإعلامية العربية النافذة لخوض تلك المعركة، بصرف النظر عن مدى الاتساق مع القواعد المهنية المرعية، يزعزع الثقة في الأداء الإعلامي العربي بكامله، ويفتح الباب أمام العودة إلى الاعتماد على الوسائط الأجنبية.ثمة قصة موحية في هذا الصدد، فقد حدث قبل نحو 80 عاماً، وتحديداً في يناير 1938، أن أطلقت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) خدمتها العربية، كتعبير إعلامي مسموع يستهدف العالم العربي. لم يكن المدير العام للهيئة لورد ريث حينذاك مؤمناً بالفكرة؛ إذ كان يخشى على استقلالية الإذاعة وحيادها، الذي تعتبره أهم ما تملك. على أي حال، انطلقت الخدمة، وذهب السفير البريطاني في المملكة العربية السعودية إلى خيمة الملك عبد العزيز، ليسمع معه أول نشرة أخبار باللغة العربية من "بي بي سي". لكن الحاضرين بهتوا جميعاً عند سماع الخبر الثالث؛ إذ كان نص الخبر كما يلي: "تم شنق عربي من فلسطين بناء على أمر من محكمة عسكرية بريطانية، إثر ضبطه وبحوزته أسلحة وذخائر...".يعلق السفير البريطاني على الموقف داخل خيمة الملك، في خطاب أرسله لمسؤولي وزارته في لندن، قائلاً: "صمتنا جميعاً داخل الخيمة، وتفرق جمعنا من دون النطق بأي كلمة". الملك عبدالعزيز أبلغ البريطانيين استياءه الشديد، وعلق قائلاً للسفير البريطاني: "كحاكم، أتفهم أن أولى مهمات الحكومة هي الحفاظ على النظام، لكن هذا الفلسطيني لم يكن ليعدم لو لم تكن السياسة الصهيونية للحكومة البريطانية وراء ذلك".شعرت الخارجية البريطانية بإحراج شديد، وأحس المسؤولون أن "بي بي سي" ليس أنها لا تساعدهم في عملهم في المنطقة فقط، بل شعروا أنها ربما "تعوق عملهم وتضر به"، وهو ما دفع سياسي بالوزارة إلى الكتابة معلقاً: "هل يجب على الهيئة أن تذيع خبر إعدام كل عربي... هذا غير ضروري بالمرة".لقد استمر النزاع حيال دور "بي بي سي"، كما استمرت الضغوط، واتخذت أشكالاً متعددة، لكن الأكيد أن إدارة الهيئة قاومت تلك الضغوط بشكل أو بآخر، وسعت إلى تكريس قواعد مهنية والتزامات أخلاقية، وكافحت من أجل تفعيلها وإدامتها واحترامها.لقد تعلمت "بي بي سي" من تجربة "إذاعة الشرق الأدنى"، وهي إذاعة كان الجيش البريطاني قد أطلقها في مطلع الأربعينيات من القرن الفائت، لتعمل كذراع دعاية باللغة العربية، في مواجهة الدعاية النازية.بعدما انهزمت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، سعت إدارة الحرب النفسية في وزارة الدفاع البريطانية إلى استغلال إذاعة الشرق الأدنى في تسويق السياسات البريطانية في المنطقة، لكن تلك الإذاعة لم تحظ أبداً بمصداقية أو احتفاء من جانب الجمهور العربي الذي توجهت له، وكانت الطامة الكبرى التي أطاحت عالمها حينما بثت رسائل تحريضية ضد الحكومة المصرية أثناء العدوان الثلاثي (1956)، الذي شنته فرنسا وبريطانيا وإسرائيل ضد مصر، وهو الأمر الذي استدعى استقالة جماعية من كل المذيعين العرب فيها.بعد هذا الفشل المزري الذي ضرب إذاعة الشرق الأدنى، لم تجد الحكومة البريطانية سبباً لاستمرارها، فأغلقتها.ترتكب "بي بي سي" مثلها مثل الكثير من وسائل الإعلام المرموقة في العالم أخطاء كثيرة، لكنها لم تتحول إلى وسيلة دعاية مباشرة مثلما فعلت إذاعة الشرق الأدنى، ولذلك فهي ما زالت تبث وما زالت تُسمع وتُحترم.على وسائط الإعلام العربية الإقليمية النافذة في المنطقة أن توازن جيداً بين اعتبارات الملكية وخدمة المصلحة الوطنية للدول المنشئة لها من جانب، وبين الالتزام بالقدر الواجب من المعايير المهنية من جانب آخر، وإلا فإن الأثمان التي ستدفعها ستكون فادحة.* كاتب مصري
مقالات
الانكشاف الإعلامي العربي
02-07-2017