الصراع الحقيقي في المجتمعات البشرية ليس صراع حضارات، أو صراع أديان، أو صراع طوائف ومذاهب كما يُصوّره اليمين الليبرالي اللاديني، وذلك من أجل التغطية على الأسباب الحقيقية للصراع الذي هو صراع اجتماعي-اقتصادي يتعلق أساساً بعلاقات الإنتاج الاجتماعية، وطريقة توزيع الثروة العامة، والعدالة الاجتماعية.

بمعنى آخر، فإن الصراع الاجتماعي-الاقتصادي في أي مجتمع، وحتى على مستوى العالم، ليس صراعاً مع الدين، فتصويره بهذا الشكل هو تشويه مقصود لطبيعة الصراع الاجتماعي الحقيقي، ناهيك عن أن ذلك يستفز الناس ويجعلهم يقفون بقوة ضد الإصلاح والتغيير السياسي-الاجتماعي لأنه يطعن في معتقداتهم الدينية المُقدسة، في حين أن الصراع الرئيسي هو صراع مع واقع اجتماعي- اقتصادي- سياسي مُتخلف يُنتِج الفقر، والظلم الاجتماعي، والتخلف التنموي، وعدم عدالة توزيع الثروة، والتهميش السياسي، والبطالة، واتساع التفاوت الطبقي.

Ad

وهذا الواقع الاجتماعي-الاقتصادي المتخلف له، بالطبع، نظامه السياسي الذي يدافع عنه من خلال أجهزته المتعددة، ومُنظّريه، وإعلامه، ومناهجه التعليمية، وثقافته، وتفسيره الخاص للنصوص الدينية المُقدسة التي يستغلها لخدمة مصالحه، ويُجيّريها، كما الموروث الثقافي، للدفاع عن سياساته.

وفي هذا السياق، فإن تيارات الإسلام السياسي بشقيه السنّي والشيعي تقوم، أيضاً، بعملية تشويه لطبيعة الصراع الاجتماعي-الاقتصادي، فتصوّره أمام الرأي العام على أنه صراع ديني ضد الكُفّار الذين قد يكونون من المذهب ذاته، وهي بذلك تُكرّس، عملياً، واقعا اجتماعيا-اقتصاديا رجعيا مُتخلفا وتدافع عنه.

لذا تحالفت أميركا وبريطانيا والأنظمة العربية التابعة لهما مع التيارات السنيّة (الإخوان وجماعة السلف ومشتقاتهما) منذ منتصف سبيعينات القرن الماضي، حيث تم استخدامها، أثناء فترة الحرب الباردة، في حرب أميركا والغرب الرأسمالي ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، فرفعت راية "الجهاد المُقدس" ضد الكُفّار السوفيات، وترافقت معها حملة إعلامية ضخمة مدفوعة الثمن تُبشّر بما كانوا يسمونها "الصحوة الإسلامية" التي فرّخت "الأفغان العرب"، و"طالبان"، و"القاعدة"، و"داعش" وما بعدها، إذ ما زلنا، حتى اللحظة، نعاني ارتداداتها. وعلى الجانب الآخر فإن السلطة الدينية في إيران، كما الجماعات المرتبطة بها، تستخدم العامل الديني-الطائفي للتغطية على طبيعة الصراع الاجتماعي-الاقتصادي سواء في الداخل أو في الخارج.

والشيء ذاته يقوم به الآن اليمين العنصري المتطرف في أميركا وأوروبا، حيث إنه يستخدم العامل الديني بشكل مُمنهج ومقصود وذلك من أجل التغطية على الأسباب الحقيقية للأزمة الاقتصادية البنيوية الرأسمالية، ثم تهميش المآسي والكوارث الاجتماعية-الاقتصادية التي ترتبت عليها في كل أنحاء العالم، إذ يزعم، باطلاً، أن أسبابها الرئيسة هي عوامل دينية وثقافية، فيسميها "صراع الحضارات والثقافات"، أو الصراع الديني والمذهبي!