رواية وحيد الطويلة "حذاء فيلليني" عمل بنائي عميق ثقيل يحتاج بالفعل إلى روائي محمَّل بفهم ووعي سياسيين كبيرين لكل ما تقوم به السلطات القمعية الدكتاتورية من بطش وتدمير لكل مَن يقف أو يرفع اصبعه تجاهها.

فساد السلطة وفساد ضباطها مما يجعل منهم جلادين يمارسون أقصى أنواع التعذيب والقمع لضحايا هم أبرياء مما ينسبه إليهم ضحايا آخرون كمنجاة لهم.

Ad

وحيد الطويلة نسج روايته من آهات وصرخات المعذبين بأدوات ضباط السلطة، فمن خلال حفلة أممية أُقيمت لتمجيد السلطة، يسكر جميع ضباطها ومسؤوليها والنساء الموجودات فيها، يختفون في الغرف، ليعيشوا مجونهم، ويتركوا خلفهم حقائبهم الملغمة بمعلومات الأوراق السرية، ما يدفع الطبيب والمعالج النفسي "مطاع"، الذي كان مدعواً للحفل دون أن يعرف سببا لوجوده معهم، إلى حمل الحقائب لغرفته مع رجل مدعو مثله، حفاظا على الأسرار الخطيرة، ومن هنا تبدأ جريمة خطفه وتعذيبه بأقصى أنواع العذاب، لتهمة ملفقة هو ليس طرفا فيها، ثم تبدأ محاكمات طويلة وإدانات تشبه فيلم "المحاكمة"، المقتبس من رواية كافكا، ومن إخراج المخرج الكبير أورسون ويلز، ومن إنتاج عام 1962، وهي تحمل ذات الاتهام لرجل تُوجه له تهمة وهو بريء منها، يتعرض لأقصى أنواع التعذيب وسحق للكرامة الإنسانية، وهو الأمر المتكرر عبر التاريخ البشري المظلم، ولا أظن أنها في يوم ما ستختفي.

تدور هذه المحاكمات أحيانا على لسان الطبيب النفسي "مطاع"، الذي قلب اسمه ضابط الأمن إلى "مطيع"، ثم تنتقل المحاكمة على لسان "مطيع" وتدخل في لعبة المحاكمات شخصية زوجة ضابط الأمن، ثم ضابط الأمن نفسه، ثم نصل إلى الشخصية المختفية طوال العمل السردي، ويتكرر ذكرها في معظم الصفحات دون حضورها، وهي شخصية "مأمون"، هو أيضا ضحية لضابط الأمن الذي يقوم بتجنيد ضحاياه بعد تدجينهم وتحويلهم إلى مخبرين يفترون على غيرهم، كأدوات بيده تعمل على تعذيب ضحايا آخرين مثلهم.

وهذا مقتطف يبين كيف يتكاثر المخبرون وتحولهم من ضحايا للنظام إلى جلادين آخرين يتكاثرون مثل مَن جندهم، الكلام على لسان شخصية مأمون: "لا تشغل نفسك، هناك في كل مقهى ومطعم مأمون، هناك خلف كل حائط مأمون، في لحظة قد يصادف المآمون بعضهم البعض، الحكاية التي حكيتها لك صعب أن تنتشر أو تُقال في وضح النهار أو تحت جنح الليل، لكن المآمين أيضا أصبح لهم أسرارهم، صرنا أكثر عددا من الجلادين، قبيلة بكاملها تنتشر كالجراد، في ظل قبيلة ينتشر فيها الجلادون كالسرطان، لابد للفتك بالمرض من دواء أقوى منه، من نفس نسيجه، من المادة النتنة بعد تفسخها، أنت طبيب وتعرف أكثر مني".

الرواية كلها حوارات تحاكم بعضها البعض، وتتناسل من بعضها البعض، محاكمات واعية راصدة لما تقوم به السلطات من تهميش واستلاب ومحو لكرامة المواطن، وتحويله إلى خرقة مهترئة وظل شبحي يخاف من نفسه.

الرواية تتداخل مشاهد حوارات شخصياتها وتتقاطع مع بعضها البعض، بما فيها شخصية "مطاع"، الذي تم تحويله إلى "مطيع"، أيضا يتقاطع من نفسه، بحيث تنتهي المحاكمات بأنها ليست أكثر من هلوسات وهذيانات نوبات جنونه، وهو المحب لأعمال المخرج الإيطالي فيلليني، الذي بات أيضا كشخصية تتداخل وتتقاطع بهذياناته بعد انهياراته من التعذيب، وهذا مقتطف من كلام الجلاد: "إدانتي صعبة، بل مستحيلة، أنا مَن يُصدر الأوامر، ولا دم على يديّ، ولا على روحي النظيفة، تقول إنني عذبتك وأنا أقول أدبتك، نعم فليكن هذا ما حدث، لو جاء دم على يدي يوما فليكن دم ماو نفسه، حتى أستطيع أن أمشي على الصراط المستقيم بجريمة تساوي التوتر. اسمعني جيدا وقف وقفة رجل، لا تقف أمامي برجل محنية وابتسامة متشفية، خسئت حيث أنت، أنا الذي أتيت بك لتسمع فقط، لست أحتاج إلى مقارعتك الحجة بالحجة، ماذا دهاك؟! هل نسيت نفسك؟! أنت الآن مطيع اسما ومعنى، نحن من اخترعنا الروبوتات قبل أن يخترعها اليابانيون، هم يصنعونها من جماد، ونحن نتفوق عليهم بصنعها من بشر، من لحم ودم، هم يحركونها من بعيد بريموت، ونحن وضعنا الريموت نفسه داخلك".

"حذاء فيلليني"، عمل سردي قوي يكشف ويعري الأنظمة القمعية السياسية الفاسدة، بسخرية لاذعة مؤلمة لصورة الضحية والجلاد، وإن كانت معذبة للضحية وللقارئ معا.