بيروت مدينة العالم
أعتبر نفسي من القلة الذين يملكون نفَساً طويلاً – لا يخلو من الاستمتاع – لقراءة المطولات الروائية التي تقع في أجزاء عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر متتالية ربيع جابر الروائية (بيروت مدينة العالم)، التي تقع في ثلاثة أجزاء، ما يجعل مجموع صفحاتها ألفاً ومئتين وخمساً وسبعين صفحة. ولكي يستطيع القارئ أن يُهيئ وقته وعقله وذائقته لقراءة هذا الكمّ من الصفحات، لابد له أن يدرك سلفاً ما قد يضيف له موضوع الكتاب من معرفة ومتعة. وبالنسبة لي كان الجاذب الأول هو العنوان، الذي شحذ رغبتي في معرفة مدينة بيروت من منظور حكائي وتاريخي وفني، والاقتراب من تلك المدينة المراوغة الغامضة التي كلما زرتُها ازددتُ جهلاً بها، وجهلاً بأسباب جاذبيتها المربكة المتقلبة بين رفعٍ وخفض. ثم يأتي السبب الثاني للدخول في عوالم هذه المتتالية الروائية، وهو يخص كاتبها، ربيع جابر، الذي يجعلك تطمئن إلى المحتوى وإلى ما ستجده فيه من المسرّات الروحية والعقلية. أعتقد أن الروايات التي تطمح إلى البقاء والتداول في عصرنا الراهن، هي تلك التي توظف الخيال في خدمة الحقائق التاريخية والاجتماعية، إذ لم يعد الخيال المحض جاذبا لشريحة كبيرة من القرَّاء. لذلك، أصبح معظم الروائيين اللامعين باحثين في الدرجة الأولى، ينقّبون ويلاحقون المعلومة الموثقة بجدّ وصبر، بل يوغلون في تتبع تشعباتها وجذورها من مظانها، إلى أن يقعوا على ما يصلح أن يكون مواد أولية لبناء روائي مُحكَم، ثم يبدأون بالاشتغال على أنسنة هذه المواد الخام، وإيقاظ روحها الغافية تحت أنقاض الزمن والتاريخ.
وربما يحضرنا في هذا المقام مشروع أمين معلوف الروائي، الذي يُعد الأكثر شغفاً بالتاريخ. فمن عباءة التاريخ استلّ أكثر الروايات تأثيراً وإمتاعاً، وجعل من التاريخ نهراً متدفقاً بالجدة، وحالاً ممتداً من التعايش والمواكبة لأهم التحولات الحضارية. من ذلك الشغف تولدت روايات "ليون الإفريقي" و"سمرقند" و"حدائق النور" و"صخرة طانيوس" و"رحلة بالدسار" وغيرها. في "بيروت مدينة العالم" محاولة لمد الجسور بين ماضي المدينة وحاضرها، ماضيها الذي يمتد من مطلع القرن التاسع عشر أو منذ عام 1820 على وجه التحديد، وهو العام الذي قدم فيه بطل الرواية عبدالجواد البارودي إلى بيروت تحت جنح الليل والمطر، هارباً من دمشق مسقط رأسه، ظاناً أنه يهرب من جريمة قتله لأخيه، الذي يتضح لاحقاً أنه لم يمت. أما طرف الجسر الآخر، فهو الحاضر، حيث يعيش الراوي / المؤلف في بيروت اليوم، وحيث يجد نفسه متورطاً في كتابة سيرة عائلة البارودي، حين تسلم أوراقاً ووثائق من حفيد عبدالجواد، الذي ناهز التاسعة والثمانين من عمره. وأمام هذا الكمّ من الوثائق التاريخية لسيرة عائلة ومدينة يجد الكاتب نفسه أمام تحدي الدخول في تلك المتاهة، في محاولة منه لصياغتها على هيئة رواية تتداخل فيها الوقائع الموثقة مع الخيال والاحتمالات. وهكذا، يبدأ الكاتب بنسج الخيوط حول عبدالجواد البارودي وكفاحه المضني لبناء نفسه وتجارته وأسرته، متخذا من مدينة بيروت محيطا لمتغيرات شتى من شدائد وحروب وأوبئة وهجرات، ومن الناس أمثلة ونماذج لأنماط العيش والمهن والعمران وصنوف المتاجر وطبيعة العلاقات. هذا العالم الموّار كان يستند بقوة إلى خيط حكائي كان الإنسان لحمته وسداه، والمحرك الأول لمسرحه الضاج بالحياة والتفاعل. أما الصبغة العامة للعمل، فيغلب عليها محاولة تقريب القارئ من الوقائع الحياتية لمدينة مثل بيروت في ماضيها، دون الوقوع في مصيدة النوستالجيا والحنين، بل على النقيض من ذلك، كانت الصورة أقرب إلى القتامة والرثاء. في مقطع ما يصف الكاتب الجو العام للمدينة إبان دخول الجيش المصري، بقيادة إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا، غازياً، ففرت الحامية التركية ورحلت زهداً بالمدينة:"من يريد الدفاع عن هذه البلدة السوداء؟ بلدة على البحر، ماذا ينفعنا هذا البحر؟ لا يسقي العطشان، ولا يلمس بزبده زرعاً إلا أيبسه. من يريد هذه البلدة ببطيخها الذي يصيبك بالإسهال، بصبّيرها الذي يمزق الأصابع قبل أن يُقشّر، بصيفها الذي يخنقك بالغبار ويذيبك بالرطوبة المالحة الحارة، بأمطارها القاتمة التي تعرف كيف تبدأ لكن لا تعرف كيف تنتهي، بالسقوف التي تدلف، بالحيطان التي تصير أطلالاً في قعر البحر؟ من يريد هذه البلدة بالوحل والسيل في الشتاء، بالرمل والعرق في الصيف، من يريد هذه البلدة، بالبيوت المتساقطة، بالخانات المتداعية، بالأسوار التي تمنع الهواء وتمنع الضوء وتمنع الحياة؟".