حاولت الروائية دنى غالي أن تستريح من همّ جثم على صدرها، وكي تساهم بتبيان مرحلة عصيبة مرت بها البصرة/ العراق، فأزاحت هذا الهم، بهذا الكم من الصور والأحداث، والتي ساهمت بفتح الطريق لمن يريد سبر غور هذا النفق الطويل.وبما أني مشاهد/ مشارك وبرأي انطباعي أتفق/ أتحفظ/ أختلف، ولكني شاهد عيان/ قارئ لا بد لي من أن أذكر أمراً ما، فلولا هذه المرحلة/ الرحلة لما تواصلنا وما زلنا حريصين على هذه العلاقة الوثيقة التي ربطتنا بوثاق أبدي، وعشقنا لمرحلتنا وأحبتنا.
«للمرارة فوائد لا تعد»، نعم ويوم صار «الهم كالنعناع المجفف يرش على كل شيء»، فلا بد هنا من التوقف قليلاً كي لا أرمي همومي على الآخرين، وأحملهم مسؤوليتي، فأنا الذي انتميت وأنا الذي تطوع كي يحمل هموم الآخرين.وهذا ما جعلني أرافق الموت ولم أبالِ إن انتهى فلان أو تآمر آخر، فالقواعد كانت محصنة ولديها القدرات والرؤى تتجاوز بعض من التصق بكرسيه، لهذا أصبح الالتزام يتفوق على الروح/ الحياة فالتضحية ليست ترفاً، بل هي إيمان مطلق داخل هذا الكائن الذي وجد ضالته بهذا الفكر، «في كل مرة يسألك الساذج/ الحاقد ما الذي حصل عليه اليساري، نعم سادتي حصل على ما كان يناضل من أجله كرامته وشرفه وهو المنى».ولما كانت دنى ابتدأت رواية «بطنها المأوى» من حيث تنتهي، فها هي توضح ما آل إليه حال سلوى وزوجها، كذلك العلاقة التي تربطها مع صديق قديم بسيم. أما الفصل الأول وعالمه المتحضر والذي أُغرق فيه معظم من وصل إلى شواطئه، فكانت المعادلة الصعبة والتي وازنت الكاتبة بين طرفيها، فوجدنا الدمار في الحالتين، فلا مأوى، البصرة وجحيمها، الحصار ودماره، هيمنة السلطة وبطشها، خوف الناس، كلها أنهر صغيرة تصبّ وسط هذه الحياة المنتهية صلاحيتها.
السوق السوداء
في الجانب المتحضر الذي عوَّل عليه البعض، ها نحن أمام صورة تراجيدية يصعب على العاقل تصورها، فالشباب القادم من رحم المسؤولية والمعاناة نجده قد سقط، وسط هذا الانفتاح الذي لا يرحم، حتى ذلك الثوري الذي أمضى حياته في ساحات النضال، ها هو ينبطح وتصبح جعجعته الماضية إلى ترويج بضاعته في السوق السوداء، وأصبح زير نساء فلم تستعف نفسه عن تلك الفتاة التي يعرف أنها جاءت من بيئة مسحوقة وعائلة كريمة، لكنه بدل من أن يأخذ بيدها نحو مستقبل أفضل أوقعها تحت طاولة التشهير.هكذا وضعتنا دنى في أماكن محددة، وفتحت جروح حاولت الغربة أن تغطيها ببعض التفاؤل، لكنها للأسف جاءت لتذكرنا بصفحات امتلأت باليأس/ البؤس الحاصل في جيل ربما كان أحدنا بل معظمنا يراهن عليه بعد تلك التضحيات.البوح الأول
أصبحت أمام جيل حتى وإن تغرب وسكن هناك في البعيد، لكنه ظلّ لا يستطيع تحمل فراق ملعب أفكاره ومكان البوح الأول، وإن عاد لم يجد من كان يعتقد أنهم سيبقون حاملين لمشعل التنوير. يا لها من محنة، فعامر ومريم (بطلا الرواية) ربما استخدما الحضارة بمفهومها هناك، أما هنا فشبابنا سقطوا في وحل الميديا الزائفة، فهم يريدون أن يتبعوا آخر صيحات الموضة، وبنفس اللحظة لا يريدون معارضة رجل الفتوى، كذلك يؤكدون على الذهاب سيراً على الأقدام لزيارة الأماكن المقدسة.دُنى سجلت مغامرة رائعة وسلّطتِ ضوءاً جميلاً على مشكلات غارقة في المرارة، أتمنى أن تكون الرواية المقبلة نجمة أخرى تضيء مسيرتك الأدبية.