مع كل ولادة شمس، لا يكن سقف أمانيك أن تكون كل الندى، وليكن أدنى أمانيك أن تكون بعض نور الشمس، فالندى يجف.

الذين اختاروا الندى يكررون خطأ اختيار بني البشر منذ الأزل، رغم أن الحياة ما زالت تكرر درسها لنا، بأن الذين اختاروا أن يكونوا ندى تحول كل فرد منهم في مرحلة ما إلى فراشة زاهية الألوان في عرش خميلتها الساحرة، ومن ثم التهمتها النار، فذلك مصير الفراش، وهذا قدرها.

Ad

هذا هو الفرق بين النجم والمبدع!

مَن ينشد النجومية يختار الندى، ومن يرجو الإبداع يختار أن يكون بعضا من قبس نور.

للنجومية مصير الفراش، ولم يروَ عن زهرة أخبرت عن جداتها الغابات أن فراشة لم تقدها أجنحتها إلى النار في بحثها عن نور، ولم يُنقل عن قوافل النسيم أنها رأت على كثر ما رأت خلال ترحالها في هذه الدنيا الواسعة فراشة نجت من النار، بل وتستنكر النسائم مثل هذا الحديث.

الذين اختاروا الندى، اختاروا أن يكونوا جاذبين، مختالين ببللهم المعطّر، تلاحقهم الأعين التي يسكنها الجفاف، بحثا عن قطرة ماء، ينعمون بتلك الهالة حولهم، والتي يظنون أنها خالدة، فيما هي باقية معهم فقط إلى حين، وعندما يتساقط ريش أجنحتهم البراقة رويدا رويدا سيهبطون بغير سلام إلى حيث زاوية قصية في الأرض، أو إلى ركن ذاكرة مُهمل، أو قد يتبوؤون مقعداً في صفحة صفراء في أحد الكتب العتيقة يلفهم النسيان، بعيداً عن نظر الحاضر أو الغد.

الذين اختاروا الندى أصبحوا نجوما، لكن ضوءها مرهون بسحر اللحظة وفتنتها، تلك اللحظة المكللة بوهم أنها ستدوم وتبقى للأبد، وأن جاذبيتهم ليست كالحليب المجفف سريعة الذوبان.

أما المبدعون الذين اختاروا أن يكونوا بعضا من نور الشمس، فهم منجذبون أكثر من أنهم جاذبون، هم منجذبون للغموض، يعبرون دهاليز العتمة، كالدراويش، أو كالمنومين مغناطيسيا، لا يعرفون إلى أين يأخذهم الطريق، لكنهم مؤمنون بأن النور سيقود دربهم إلى قنديل قلب وسراج عقل يكتملون به، ليزداد سور حمايتهم لرقعة جمالٍ فيهم هي كل ما يملكون، غير طامعين بشيء أكثر من قبس من نور يسكبونه في عتمة قلوبهم، لا يدور في خلدهم أن يلتهموا الشمس، أو أن يخبئوا قرصها تحت ملابسهم، حتى لا يقاسمهم شعاعها أحد، بل كان حلمهم أن يكونوا من حاملي نورها كجان دارك، أو من واهبيها كبروميثيوس.

المبدع غير النجم، المبدع يستخلص النور من رحم النار، يحترق فيها، لكنها تعجز عن أن تحيله إلى رماد، فهو يُبعث من رماده كطائر الفينيق، ليكمل مسيرته مضيفا إلى زوّادته قبسا أو شعلة، يعبر المبدع النار بردا وسلاما بطمأنينة نبي!

مع ولادة كل شمس لا تختر أن تكون ندى، فالندى يجف ويتبخر عند أول همسة نار، فيما النور باقٍ إلى الأبد ما بقيت النار!