«أفتح الشباك... ولَّا أسِدّ الشبّاك»؟!

صيحة شهيرة أطلقها الممثل المخضرم أحمد الجزيري في مسرحية «القضية» التي أخرجها للمسرح القومي عبد الرحيم الزرقاني عن نص للكاتب الكبير لطفي الخولي، وبعدها ارتبطت في الأذهان بالحيرة، التي تعتمل في نفس رجل الشارع، حيال القانون، والغربة التي تعتريه، وهو يعيش في ظل منظومة عبثية غابت عنها القواعد، واضطربت فيها المعايير، وصارت عصية على الفهم والتفسير، فلم يعد يعرف ما الذي ينبغي وما لا ينبغي أن يفعله!

Ad

تذكرت تلك الصيحة، وأنا أتابع عرض فيلم «جواب اعتقال»، إذ انتابني شعور بأن من يرددها اليوم هو الممثل الشاب محمد رمضان، الذي تعرض لهجوم شرس من أولئك الذين رأوا في أفلامه السابقة تكريساً للانحراف، وتصديراً للبلطجة، وخدشاً للذوق العام، وتدميراً لجيل الشباب، وحملوه مسؤولية الانتشار الحاصل للعادات السلبية، والسيئة، في المجتمع، وعندما اتجه إلى تصحيح المسار، واستجاب للمطالب اللائمة، والحملات الغاضبة، وأقدم على بطولة فيلم يتبنى رسالة، ويتحمس لقضية، كانوا أول من انصرفوا عنه، وخذلوه، في حين أنهم أنفسهم الذين أقبلوا على أفلامه التي اتهموها بإشاعة البلطجة، مثل: «الألماني»، و{عبده موتة»، و{قلب الأسد»، وجعلوها تحقق أعلى الإيرادات!

في فيلم «جواب اعتقال» يحاول المؤلف والمخرج محمد سامي أن ينكأ الجرح، ويُمسك بأصابعه مشرطاً يُطهر به ثوب وجسد الوطن، من القيح والصديد والدم الفاسد، الذي أصيب به على أيدي الجماعات الإرهابية، التي تتستر وراء الدين. وللمرة الأولى على الشاشة يتهم الفيلم وزارة الداخلية بارتكاب معالجات فاشلة، وهي تواجه ظاهرة الإرهاب، ويدين علانية الأسلوب الذي تتبعه منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً، إذ اعتادت القبض على رموز الإرهاب ثم الإفراج عنهم، بعد تحقيقات تبدو صورية للغاية، كونها غير مُلمة بحقيقة خططهم، وأفكارهم، ونواياهم، بما يجعل هؤلاء الإرهابيين في مأمن، وكلهم ثقة في أن يد القانون لن تطاولهم، وهي الطريقة التي يرفضها ضابط الأمن الوطني «محمد عبد العزيز» (إياد نصار)، الذي يقترح على رؤسائه في الداخلية اتباع أسلوب «الضربة الاستباقية» للإيقاع بالقيادات الإرهابية، مثل: «الشيخ عبد الله» (سيد رجب)، و{الشيخ مصطفى» (صبري فواز) ومن خلفهم {خالد الدجوي» (محمد رمضان) قائد الجناح العسكري للجماعة، عبر الاختراق، والتنصت، والإلمام بالخطط والمعلومات، ومن خلال إحداث ثغرة عاطفية في الجدار السميك المسمى «خالد الدجوي» تتمثل في ابنة عمه «فاطمة» (دينا الشربيني)، التي تكرهه، وتلفظه، لكنها تُضحي بحبيبها، وتعقد اتفاقاً مع ضابط الأمن الوطني، يمكنها من نقل أسرار «خالد»، بعد الزواج منه، وهي المشاهد التي تجعل الفيلم حلقة في مسلسل درامي تلفزيوني مأخوذ عن ملفات الاستخبارات العامة!

خشي المؤلف محمد سامي أن يتسبب هذا الخط ألاستخباراتي التقليدي في إفساد «جواب اعتقال» فما كان منه سوى أن مهد للحظة تنوير البطل، عبر خطين آخرين، أولهما عقدته المزمنة بسبب كونه ابن خدام الجامع، الذي ذاق والده الفقير الذل والمهانة على يد الشيخين، وثانيهما خوفه على شقيقه «أحمد» (محمد عادل) من الانزلاق في هوة الإرهاب. وباجتماع الخطين كان الانتقام، حيث انقلب الإرهابيون على بعضهم بعضاً، بعد تعليمات أصدرها التنظيم الأم وتسببت في الانشقاق، واغتيال عبثي لشقيق قائد الجناح العسكري دفعه إلى الثأر من الجميع!

لم ينجح الفيلم في تأصيل الظاهرة، وبدلاً من إعادتها إلى جذورها الاقتصادية والسياسية، أرجعها إلى الحقد الطبقي (الطفولة البائسة لابن الخدام ورغبته في أن يصبح الطاووس المتوج)، والأجندة الخارجية («أبو مصعب» يقود التنظيم الأم في لبنان)، وفشل الحل الأمني (الاختراق هو الحل). ورغم مشاهد الحركة التي أداها محمد رمضان، بلياقة بدنية عالية، فإن جمهوره لم يجد في «جواب اعتقال» ضالته المنشودة، بل إن المشهد الأخير المتمثل في قنص «الشيخ مصطفى» فجّر عاصفة من الضحك والسخرية، بدلاً من أن يثير التعاطف، إذ فعل «الدجوي» ذلك بعدما أرداه ضابط الأمن الوطني برصاصة مميتة لكنه عاد واستكمل مهمته على طريقة أميتاب باتشان !

«جواب اعتقال» عن الشاب الجامعي الذي تخرج في كلية الهندسة، واختبأ وراء الوظيفة الحكومية، ليؤكد ظاهرة «الخلايا النائمة»، وتبنى موقفاً مناهضاً للإعلام، وللدعاة الجدد (حددهم بالاسم)، ويُدرك في قرارة نفسه زيف العالم المتحدث باسم الدين. لكن أقوى ما في الفيلم، في رأيي، أنه يفضح الدولة التي تترك المنابر لشيوخ التكفير، مثل الشيخ مصطفى، وتواجه ظاهرة الإرهاب، من خلال وزارة الداخلية، بالطرائق القديمة نفسها والنظريات العقيمة، وكأنها صاحبة مصلحة في استمرار الظاهرة!