تخريب مزاج الحزن
هل الهارب من الحُزن جبان؟ أم أن الشجاعة هي تجرُّع كأس أحزان الزمان ليلَ نهار؟ هل تزداد الروحانية بالكآبة؟ هل الأخيار في عسر والأشرار في يسر؟ هل السعادة أوهام نحب تصديقها لكي "يعدي اليوم"؟ وددت إدراك سبب استعاذة الرسول، صلى الله عليه وسلم من كآبة المنظر في دعاء السفر الذي نسمعه عند ركوب الطائرات "اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر"... وسبب أمره لصاحبه الصِّديق وهما بالغار ألا يحزن، ولماذا جاءت كلمة الحزن في القرآن الكريم مصحوبة بالنفي أو النهي؟كل هذه تساؤلات تطرح نفسها، ففي موروث تربيتنا العربية في شبه الجزيرة، مجدت أشعارنا و"سوالفنا" مزايا الجَلَد والكدح والكفاح، وحتى في الغرام، فإن عبلة "جوليت العرب" لا تُنال إلا بالرماح لا بغمزة عند نافورة بجوار بحيرة إيطالية. جفاف عواطفنا يحاكي أرضنا القاحلة، التي ظهر منها أشاوس بواسل، بإسلامهم أخضعوا إمبراطوريتين. واليوم تُهزَم تلك الشجاعة أمام التكنولوجيا، فقد أصبحت بيئتنا مختلفة؛ فالذهب الأسود عكس بيت المتنبي الذي يقول فيه: "المجد للسيف ليس المجد للقلم"، فعلوم الفيزياء النووية التي كتبها القلم، جعل الانتصار على البواسل من كل القبائل عبر "زر" في واشنطن، لذا نشعر بالحزن لتخاذلنا الحضاري. لانت همتنا وماعت أجسادنا وصارت ثقافة قراءتنا تغلب عليها كتب الطبخ ثم تفسير الأحلام بسبب "دسامة" الوجبات، وأخيراً "لا تحزن" للدكتور عائض القرني ليصف في مصاف صحيح البخاري من حيث الرواج عند المتدينين وغيرهم، وبعد هذا التسلسل لأحوالنا الفكرية أجد أن هذا العرض غير مفيد بدون أن نعي ماهية الحزن ذاته.
أهو مزاج كباقي الأمزجة قابل للتخريب؟ ما دلالاته اللغوية؟ سألت جلالة العلامة "غوغل" عن الدلالات اللغوية لكملة "الحزن" ليقلني إلى مستودع يكشف تحقيق المفردة العربية بكل المعاجم، فظهر أن "الحَزن" بفتح الحاء الأرض الوعرة، أما بضمها فهو الشعور بتعاسة وبؤس، فثمة علاقة وطيدة بين تعقيد حياتنا وتعاستنا، فكم مشروع شللناه بالتخطيط المتصنع والشروط المتكلفة! وكم حرف لو قاله الأب ما طلق أم أبنائه، وكم عادة غذائية تافهة أرقدت شيوخ قبائل في مستشفيات، كم هكتارات صحراوية من الممكن أن نغرس فيها ألواحاً شمسية رخيصة نضاعف بها دخلنا القومي عبر الطاقة البديلة. ومثل كل شعور، فإن الحزن ذو شقين، معنوي ومادي، فمن الناحية السيكولوجية هو شعور بعجز إمضاء الإرادة، فمن يمكنه أن يعيد شبابه وأحبابه؟ أما فسيولوجياً فإن امتزاج الهرمونات هو المِزاج، حيث إن لكل شعور إحساساً بيولوجياً، يتجلى في أنواع الهرمونات التي تتمازج لإحيائه، فالحُزن لا "يُشرف" بحضوره حياتنا إلا بشح وفقر المنبهات، والحواس الخمس بنك إيداع تلك المنبهات، لذلك فقد انكب الأثرياء بالألوف عبر العصور على الزخارف المغربية، والموسيقى، والجلود الفاخرة وجنون فنون العطور والبخور والمطاعم الغالية، حيث إن السعادة بشقها المادي لها سعر، انطلاقاً من أن الصفة المجتمعة بين كل مبهجات الحواس هي التنبيه الإيجابي، وهذا ما قدرت قيمته كل الحضارات والشعوب.خلاصة معاناتنا اليوم أنها بُخل سيكولوجي، فلا حزن في بيئة تروي عروق قلبك حناناً ووداً؛ فلماذا طلقت تربيتنا الرومانسية، والله جعل لنا أبيات الغزل في أزواجنا عبادة نثاب عليها؟ لماذا جعلنا الرجولة جلافة والرسول علمنا أن المسح على رأس اليتيم ثواب، اعتبرنا القسوة واقعية، رغم أن سقي هرة قد يدخلنا الجنة، لسان حال الدنيا والدين يقول لنا "أَسعِدْ تَسعَد"، فلنخرب مزاج الحزن بالتعبد عبر سعادة أمرنا الله بها.