اشعر بالآخرين كأنك مكانهم
ما تملكه الآن قد تفقده بعد حين، وما تفاخر به اليوم قد يسلب منك يوماً ما، وهذا الأمر يمتد إلى كل شيء تظن نفسك مالكا له، بما في ذلك نفسك وصحتك وقلبك وروحك. الكلام سهل، لكن المرء لا يدرك وطأة هذا الأمر إلا عندما يخوض تجربة الفقد، فكل الذين انتابهم المرض وجدوا من تخلى عنهم، وكل الذين تألموا لم يجدوا من يشعر بهم "فعلياً"، فلن تشعر بالوخز إلا أن أصابك، أما كلام الرأفة والمواساة فستراه مكرراً جداً إلى أن تمله، ستصل إلى مرحلة لا تريد فيها أحداً، لن تجد الذي يفهمك حقاً سوى نفسك. ورغم كل تلك المقاطع الموثقة لأشخاص يحكون قصصاً حولتهم جذرياً من حال إلى آخر، ورغم كل تلك الآيات التي تمر أمامنا يومياً، فإننا نقف عندها برهة ثم نمضي كما نحن دون اعتبار، نظل غير آبهين مادام الأمر لم يصلنا.
كان أكثر المشاهد المؤثرة في رحلتي للحج عام ٢٠٠٨ هو حال الكثير من الفقراء والمساكين الذين جاؤوا من شتى بقاع الأرض لهدف واحد، ورغم اختلاف أحوالنا تيقنت حينئذٍ أن أجرهم في تلك الرحلة يفوق أجرنا وثوابنا بكثير، فالأجر على قدر المشقة، لا بقدر ما نملك، ومع ذلك نظن أننا سنملك الدنيا إذا تحققت آمالنا وطموحاتنا وغيرها من الأمور التي لا تعد حلماً عند المحتاج، فأقصى أمنيات تلك النفوس المحرومة هو الستر وكسرة خبزٍ لهم ولعائلتهم، ومع ذلك قد يمر بعضنا بغرور على تلك الأيادي الممدودة التي اضطرها العوز لأن تكسر حاجز عزة النفس وتسأل الناس ما تجود به أنفسهم. منا من يتجاهلهم، ومنا من ينهرهم، وكثيرٌ منا يدخل في نواياهم ليجزم بتمثيلهم وكذبهم! في جميع الأحوال لا نشعر بهم حتى وإن أعطيناهم بقايا القطع المعدنية المهملة في السيارة، نحن في الحقيقة لم نشعر بالأمرَين؛ أمر الاحتياج وأمر النعمة التي نملك، فكل الذي لا يجد داعياً للحاجة شخص لا يعرف معنى تلك الحاجة ولا قيمة ما يملك. يروي الممثل كريستوفر ريف، الذي اشتهر بشخصية "سوبر مان" أنه أثناء قيامه بتمثيل آخر فيلم له باسم "فوق الشبهات" كان لزاماً عليه أن يذهب إلى مراكز تأهيل "المشلولين" ليتعرف تصرفاتهم التي سيحاكيها في فيلمه، وبعد الانتهاء وأثناء عودته بسيارته قال بسخرية: "حمدا لله، لست منهم"... لكنه بعد سبعة أشهر تحديدا تعرض لحادث مروع وصار مشلولاً تماماً عدا صوته الذي بالكاد يسمع، وبعدما عاش تلك التجربة تحدث معترفاً بجرأة عن نظرته السابقة المتعجرفة حيال المشلولين الذين كان يزورهم، وكيف أن المرء لا يضمن ما يملك، فما تعتقد أنك نجوت منه قد يصيبك في أي لحظة، حتى في الفقر، بل حتى في إيمانك بالله وقلبك القابل للتقلب في أي وقت. ولتكون في مأمن من ذلك كله، احمد الله على ما تملك "إيمانا" لا سخرية، فحتى في الحمد هناك نبرة عليك أن تتوخاها! وإياك أن تتغطرس على من هم أقل منك؛ فالضعفاء أجرهم عند الله أعظم، فلا يستوي عند الله من يؤدي العبادة بيسر وسلاسة عن آخر يؤديها بشق الأنفس رغم عجزه وقلة حيلته.