ما قــل ودل: حق الدفاع المفترى عليه في نظامنا القانوني
يقول عميد المحكمة الدستورية ورئيسها الراحل الدكتور عوض المر إن حق الدفاع يرتبط، في الأغلب الأعم من صوره، بضمان الحرية الشخصية، وإن الدستور قد اعتبر الحرية الشخصية من الحقوق التي لا يجوز الإخلال بجوهرها، وإن المحكمة تحميها ابتداء من خلال ضماناتها المنصوص عليها في الدستور، ومن خلال الوسائل القانونية السليمة بما تقره السلطة التشريعية من النصوص القانونية التي تقدم لهذه الحرية ضماناتها لردع كل عدوان عليها. تخلف نظامنا القانوني
ولكن نظامنا القانوني الذي يجمع كل القواعد القانونية التي تنظم العيش في الجماعة، والتي يجب على الكل احترامها احتراما تكفله السلطة العامة بالقوة عند الضرورة، لم يعد يساير مقتضيات العصر الذي نعيشه، وعالم حقوق الإنسان الذي نحياه، ولم يعد يتفق مع المواثيق الدولية لهذه الحقوق، وإن القوانين التي يضمها في أغلب فروع القانون لم تعد تطبيقا أمينا لنصوص الدستور التي تصون الحقوق وتكفل الضمانات الضرورية لحماية الحريات، وإنها في حاجة إلى إعادة التوازن في صونها لهذه الحقوق وحمايتها لهذه الحريات.التناقض في النظامولئن كان حق التقاضي مكفولا للناس كافة في المادة (166) من الدستور الكويتي، وفي المادة (97) من الدستور المصري ويشمل المنازعات المدنية والمحاكمات الجزائية معاً، فإن أغرب ما صادفته في نظامنا القانوني هو موقف هذا النظام المتناقض من حق التقاضي في الدعاوى المدنية، ومن حقوق المتهم في الدعوى الجزائية، ذلك أن هذا النظام يحابي المدعى عليه في الدعوى المدنية محاباة يجد المتهم نقيضها في الدعوى الجزائية، بالرغم من أن الدستور في الكويت وفي مصر يلزمان النظام القانوني والنظام القضائي بتوفير كل الضمانات الضرورية لحماية الحرية الشخصية وحق المتهم في محاكمة قانونية عادلة ومنصفة، وهو ما لا تحظى به الدعوى المدنية في نصوص الدساتير بوجه عام.التشدد في الحقوق المدنيةفنظامنا القانوني، سواء في الكويت أو في مصر، يلزم القاضي بشطب الدعوى المدنية، إذا لم يحضر المدعي أي جلسة من جلساتها، وعليه أن يجدد الدعوى من الشطب خلال شهرين وإلا اعتبرت كأن لم تكن.وإذا لم يحضر المدعى عليه في الدعوى المدنية، ولم يكن قد أعلن لشخصه، لعدم وجوده في محل إقامته وقت الإعلان، فإن المحكمة تؤجل القضية إلى جلسة أخرى لإعادة إعلانه.ويطول الفصل في الدعوى المدنية وقد يستغرق الفصل فيها عشر سنوات أو أكثر، وصولا إلى حكم يكون عنوانا للحقيقة أو الأقرب لها. التساهل في العقابويضيف الدكتور عوض المر في تقديمه سالف الذكر، أن لكل جريمة ينشئها المشرع أركانها التي يفترض أن تثبتها سلطة الاتهام من خلال تقديمها لأدلتها والإقناع بها، بما يزيل كل شك معقول حولها.وإن الوسائل الإجرائية التي تملكها سلطة الاتهام، لا يوازيها إلا افتراض براءة المتهم مقرونا بفعالية الدفاع لضمان ألا يدان أحد عن الجريمة، ما لم يكن الدليل عليها من كل شبهة له أساسه، ولا يجوز بالتالي إسباغ الشرعية الدستورية على نصوص عقابية لا تتكافأ بها وسائل الدفاع التي أتاحتها لكل من سلطة الاتهام والمتهم، فلا تتعادل أسلحتهم بشأن إثباتها ونفيها.تساهل النظام في العقابولكن للدعوى الجزائية في نظامنا القانوني طقوس أخرى، فالبلاغ المقدم من أي من آحاد الناس ضد غيره، يجد طريقه السريع إلى المحكمة، ولا يكلف المبلغ بالحضور أمامها، فالادعاء العام ينوب عن صاحب البلاغ، ولا تؤجل المحاكمة الجنائية، إن لم يحضر المتهم أمام المحكمة، لإعادة إعلانه إذا لم يكن قد أعلن لشخصه، بل تحكم المحكمة في البلاغ المقدم ضده من واقع أقوال صاحب البلاغ دون أن يستوفي مقومات التحقيق من سماع أقوال المتهم أو مواجهته بصاحب البلاغ، أو تمكينه من إبداء دفاعه ونفي الاتهام، فالمتهم لا يعلم شيئا عن هذا البلاغ، لأنه أعلن بالطريق الإداري الذي يشوبه العوار في أغلب الأحيان.وفي الوقت الذي يتيح فيه نظامنا القانوني للخصوم في الدعوى المدنية حق الدفاع بوكلاء عنهم من المحامين، فإن هذا النظام يوجب حضور المتهم شخصياً في قضايا السرقة، وينفذ الحكم فيه فوراً، دون انتظار لما يسفر عنه طعنه بالاستئناف، بل يجيز نظامنا القانوني في الكويت للقاضي في كل الجرائم أن يشمل أحكامه بالنفاذ الفوري، ويصدر الحكم بحبس المتهم غيابيا دون تحقيق تجريه المحكمة، ودون أن ينال المتهم حقه في محاكمة عادلة منصفة.الحكم الغيابي والمعارضة فيهويتشدد القاضي في العقوبة في الحكم الغيابي، لأن عدم حضوره هو استهانة بالمحكمة وبالعدالة، وقد لا يكون الأمر كذلك في أغلب الأحوال، بل لأن نظامنا القانوني هو الذي يستهين بحقوق الأفراد وحرياتهم.ويتيح نظامنا القانوني للمتهم المعارضة في الحكم، وتقضي المحكمة ببراءته بعد تحقيق دفاعه، ولكن بعد أن يكون الحكم قد استنفد أغراض صاحب البلاغ في إلحاق العار بالمتهم بين أهله وذويه، وبما يتداوله الناس عنه بعد القبض عليه لتنفيذ الحكم.وفي تدمير مستقبل المحكوم عليه بالإدانة وظيفيا وسياسيا، وإذا كان المحكوم عليه بالحكم الغيابي شخصية عامة، فلا يقتصر الحكم على الحط من قدره في المجتمع بين من يعرفه من الناس وحرمانه من حقوق يستمدها من الدستور أو القانون، بل سيحط من قدره كشخصية عامة بما سيتداوله الناس عموما عن سوء سيرته بسبب هذا الحكم.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.