موت اللغة

نشر في 10-07-2017
آخر تحديث 10-07-2017 | 00:01
 فوزية شويش السالم أنشر اليوم مقتطفاً من روايتي "الجميلات الثلاث":

مشهد لعبهن المتناغم المنسجم في ذاك الزقاق الضيق الصغير من حي المرقاب، سيبقى ماثلا طوال العمر أمامي، مدفونا في ذاكرتي يبحث عن مخرج لبوابة الأسئلة. الزقاق الترابي وجدار منزلنا، واستنادي إليه ملفوفة روحي بحيرتها، وعقلي تطحنه الأسئلة، والوضوح الغاطس في غموضه، الذي لا يظهر ولا ينجلي، وأنا أراقب في محبس صمتي وتكاثف حيرتي، يطوقني بعدم فهم ما يدور حولي. من ضحكهن وفرح عيونهن يأتيني شعور بأنهن سعيدات بما يقمن به، لكن هناك عائقا بيني وبينهن يمنع تواصلنا، يباعد بيننا. لم أفهم طبيعة ونوعية هذا العائق؛ نحنُ جيران ونقطن ذات الحي وسكيكه، ونساء الحي يزرن أمي، وهي تزورهن، وإن كانت علاقاتها قليلة ومحدودة، إلا أنها كما أدركتُ فيما بعد، حميمة دافئة تركت أثرها في نفوسهن. ما الذي أقام الحاجز والسد بيني وبين من عرفتهن؟ سواء في مرحلة الطفولة، أو ما تلاها من مراحل العمر المختلفة؟ الحاجز الوهمي اللامرئي الواقف بيني وبين شخوص الماضي، يصعّب الفهمَ ويضلّل فك شيفرة الغموض، ليبقى حبل التواصل مقطوعاً دائماً، وأبقى أدور في غربة وعزلة روحية عما حولي.

أنا لا أذوب. بكل بساطة اكتشفت عدم ذوباني في كل ما مررت به من ظروفي الحياتية، سواء في مرحلة الطفولة أو الصبا أو الشباب، وما أعقبها من عمر تالٍ. لكل عمر مرحلة عدم ذوبان مختلفة عن سابقتها. ما الذي جعل هذه الغربة تدل مكامن الروح وتتسلل إليها؟ غربة قديمة من عتبة الطفولة الأولى، من ذاك المشهد الدائر تحت رذاذ المطر، وأنا أتساءل عن سر الغربة، وأسباب عدم الذوبان.

وسيبقى ذاك المشهد مع مشاهد كثيرة من مرحلة الطفولة ممحواً من لوحة التبرير والتفسير والفهم، مجرد صور أو لقطات متقطعة غير موصولة لا بفهم ولا شرح ولا معنى، والأدهى بلا كلام. كلها مشاهد مبتورة، مفصولة عن الحدث ومسبباته، ولغزه ومعناه... مشاهد صامتة خرساء بلا لغة، لا من طرف المتكلم ولا طرف المستمع... مشاهد لا تربطها أحداث، ولا يفسرها منطق الكلام، مجردة من معناها، مسحوبة منها لغة صوتها، ورنين تعابيره، وستبقى محنطة في الذاكرة لا تفسير لها، لأن الموت أكلها، ماتت اللغة.

تجلس في وسط الحوش الترابي على تختة صغيرة تطعم الأرانب المتجمعة حولها أعواد البرسيم الأخضر، النضر الزاهي في خضرته الطازجة. أرانبها تتقافز حولها، تتلقف الورق الأخضر من يدها، يدها البيضاء التي أتذكرها، تأتيني كحمامة من الصدى البعيد تحط على روحي بحنين إليها، غامض مثل عبورها السريع في حياتي، مثل ظهورها في مشاهد مبتورة لا تحمل بصمة صوتها، مجرد صورتها بلا صوتها. أسأل إحدى صديقاتها عنها، لا تعرف لغتها، ولا تدرك بشكل واضح معنى كلامها.

- خالتي كيف كان صوت أمي؟

- صوتها كان حلواً.

- أقصد كيف كان صوتها؟ يشبه من فينا أنا أو إحدى أخواتي؟

- صوتها ناعم يشبه صوتك شوية.

- لو فرضا طرقت الباب الآن وسمعتِ صوتها آتياً من الحديقة الأرضية من غير أن ترينها، هل ستعرفين أنه صوتها؟

- توناي... الزمن يغير الأصوات، وأكيد صوتها راح يتغير علي لو كانت موجودة في يومنا هذا.

- أقول لو سمعت صوتها القديم تعرفينه؟

- أكيد الأصوات بصمة الإنسان في دنياه، أتذكره حتى لو مر مروراً في الخاطر. مشهدها وهي تطعم أرانبها بقي في الذاكرة أخرس بلا صوت وبلا بصمة، حين فقدت اللغة صوتها. أراها من الليوان المحبوسة فيه أنا وأختاي، ربطت قدم كل واحدة منا في رجل سريرها، وتركت مسافة قصيرة في الحبل نتحرك فيها. أرقبها من خلال صمتي المطبق، لا أتذكر لغتها الآن... فقط صمت طويل بقدر طول المشهد. أخرس ككل المشاهد المشدودة في بكرة الذاكرة، جالسة في وسط حوش ترابي، تُطعم أرانبها أعواد برسيم أخضر، في يدها اليمنى حزمة البرسيم، ويدها اليسرى تمسح دموع وجنتيها؛ كانت تبكي... أجل كانت تبكي بصمت. مجرد دموع تسيح في خرس المكان وخرس صوتها. البكاء ليس لغة، البكاء دموع صامتة تنحدر على خديها، لذا لا يوجد تفسير واضح لموقف انسلخت منه لغته.

تتوقف اللقطة عند هذا المشهد.

- ستوب.

back to top