كثيراً ما يشعر القراء المتابعون للكتابات حول التطرف والإرهاب بأنه لا جديد يقدم، فمن وقت لآخر يفند البعض ظهور تنظيم ما، ويتبعه بسلسلة عن طرق التجنيد في التنظيمات الإرهابية، ثم عملياته، وبعد مرحلة يأتي البحث عن الإجابة لسؤال: هل انتهى تنظيم ما؟ وتتشابه الإجابات في نفيها أو إثباتها.

هذا الشعور أقرب إلى الصواب دائما، ولكن لِمَ يكتب هؤلاء الباحثون تلك المقالات والدراسات المكررة؟ هل لثبات تلك التنظيمات وتشابه خططها واستراتيجياتها؟ أم لفراغ وسطحية هؤلاء الكتاب؟ أم أنه لم ينظر إليها بجدية من الدول والأنظمة والمؤسسات المعنية بمكافحة الإرهاب؟

Ad

حقيقة الأمر هناك مصطلح "وعاء السببية"، وهو مصطلح مكرر الذكر في كتاباتنا، هذا المصطلح يفيد بأن هناك سبباً رئيساً دائماً لتفسير الأشياء، ولكن هذا السبب يتكون من تداخل العديد من الأسباب ومن ثم تنتج الظاهرة، وفي حالتنا تلك تتداخل العوامل كافة لتخرج في النهاية هذا الشعور السائد لدى القراء، وهذا ما يطرح تساؤلاً مهماً بشأن هل هناك نية حقيقية وإرادة فعلية للقضاء على الإرهاب؟

الإجابة السريعة عن هذا التساؤل، تأتي بالإثبات، فهناك العديد من الجهود المبذولة لمكافحة الإرهاب، ولكن إذا نظرنا إلى نتائج تلك الجهود على أرض الواقع فسنرى أن سلبياتها أكثر من إيجابياتها، فمكافحة التطرف في دول ما، والمساهمة في إبعاد المتطرفين عن تلك الدول يترتب عليها ظهور تنظيمات إرهابية كبرى، ومحاربة تلك التنظيمات في أماكن قياداتها المركزية وتقليص حجمها ينتج عنه زيادة في نفوذ الإرهاب المحلي بدول الإرهابيين في تلك التنظيمات سواء بعودتهم إلى بلادهم وعدم وجود خطط فعلية لإعادة تأهيلهم، أو من ذويهم وممن يشاركونهم الأفكار نفسها في تلك الدول المكافحة، ومن الناحية التشريعية والقانونية تجد، على سبيل المثال، أنه على الرغم من وجود العديد من التشريعات والقرارات والمواثيق فإنه ما زال هناك اختلاف في تعريف الإرهاب.

تلك الجهود مرحلية مؤقتة مسكنّة ليس إلا، وربما يكون السبب وراء اتخاذ تلك الدول جهودا كتلك يعود إلى رغبة بعض الأنظمة خصوصا في الدول النامية في استمرار الإرهاب؛ لما لذلك من فوائد في النهاية في تبرير فشل تلك الأنظمة في النهوض ببلادها، وربما تكون مبررا للقمع وكبت الحريات وانتهاك حقوق الإنسان، وربما يكون السبب عدم كفاءة المعنيين بمكافحة الإرهاب، وربما يكون من جراء دعم دول لتخريب دول أخرى... إلخ، ولكن الشاهد أن لدينا جهوداً فاشلة وإرهاباً مستمراً.

النية الحقيقية والإرادة الفعلية لمواجهة الإرهاب- من وجهة نظرنا- تكمنان في الإدراك والفهم والانطلاق من العلاقة بين التطرف والإرهاب، فالشيء الأكثر اتفاقاً في دراسات التنظيمات الإرهابية يكمن في قاعدة "كل إرهابي متطرف"، والتطرف هنا يكون بكل أشكاله سواء كان دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً... إلخ، أي أن هناك علاقة بين الفكر والفعل، وبالطبع لا فعل بدون فكر، ولكن قبل الخوض في طبيعة تلك العلاقة ومن أين تأتي المواجهة، يجب التأكيد على أن وصول الأشخاص لدرجة التطرف في مجتمع ما يعود لغياب ثقافة "الاختلاف" و"الرأي والرأي الآخر"، والنظر إلى مثل هذه الأشياء على أنها شيء سلبي غير صحي يترتب عليه في النهاية الغلو والتشدد والتطرف.

تحول الفكر إلى فعل، كتحول المتطرف إلى إرهابي، يعود لاستمرار عوامل عدة سياسية واقتصادية واجتماعية... إلخ، فأحد أسباب تكوُّن الفكر ذاته هو الدول في تعاطيها مع الأمر والتي دائما ما تتجه نحو الفعل، فتأتي الجهود الأمنية والقانونية والقضائية لمعالجة تلك الأفعال، وهذا أمر محمود، ولكنه لا قيمة له ما دام يأتي منعزلاً عن مواجهة الفكر، حيث إن الخيرية والأفضلية التي تسيطر على عقل المتطرف تدفعه نحو ارتكاب الفعل "الإرهاب" فلا يحجمها القانون ولا السلاح، كما أن صفة "المتطرف" دون ارتكابه الفعل مباشرة، ومخاطبته بكونه إرهابيا، وأن أفكاره تصب بالضرر على البشر، كلها أمور تفشل المساعي لمواجهة التطرف، فالمتطرف نرجسي لا يبالي إن حدثته عن أضرار أفعاله مباشرة فهو يفتقر إلى العاطفة.

إذاً لا بد من مواجهة الفكر، ولكن ليس بمعزل عن استمرار مواجهة الفعل مع التفرقة بين المتطرف والإرهابي، وأن المواجهات الأمنية والقانونية والعسكرية تأتي مع الفعل، ومواجهة الفكر تأتي بتفنيد الحجج ومقابلة الرأي بالرأي، وتأتي بتحسين العلاقة بين الدولة والمواطن وإشراك المواطن وإعادة الثقة بينه وبين الدولة، وتحسين ظروفه المعيشية أو في أبسط الصور وجود خطط جدية تشير إلى سعي الدولة إلى ذلك، ومواجهة الفكر أيضا تأتي من احترام حقوق الإنسان والتوقف عن قمع المعارضة، فتكمن مواجهة الفكر في الحد من تطرف الدول ونرجسيتها بمعنى قبولها لثقافة الاختلاف وإيمانها بأن المعارضة تصب في النهاية في مصلحة الدولة ولا تعمل على تخريبها.

ومواجهة الفكر تأتي من احترام الأقليات وثقافاتهم وخصوصيتهم دون مغالاة في ذلك حتى لا نخلق حالة من العداء وبدورها تخلق متطرفين، ومواجهة الفكر لا تسعى لإقصاء أفكار معتدلة خشية تهديدها لعروش القائمين على الدول، ومواجهة الفكر تكمن في الوقوف على القضايا التي يتسلل عن طريقها هؤلاء لتحويل المتطرفين إلى إرهابيين، ومواجهة الفكر تعبّر نهايةً عن وجود إرادة ونية حقيقية للقضاء على الإرهاب، وحتى تأتي هذه الجهود سيظل الحديث في هذه القضايا عبارة عن كتابات ومقالات مقررة ومكررة تنعى تنظيما وتتوقع ظهور آخر.

*كاتب وباحث مصري متخصص في شؤون الإسلام السياسي