الأرض المطوية
![د. نجمة إدريس](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1511191571908366400/1511191591000/1280x960.jpg)
لم تحتج الكاتبة، والحال كذلك، إلى مرجعية التاريخ، اللهم إلا شذرات تضيء بها بعض الأحداث التي تحتاج إلى متكآت توضيحية، أو تكون امتدادات ذات علاقة بما مضى من تاريخ قريب. وهكذا، يتشكل محور الرواية الأساس بتؤدة، موازناً بين كفة ما تبقى من براءات على وشك الغروب - متمثلة بالفتاة "شارو" راعية الأبقار وابنة الطبيعة، وعمها "بوران" المحتفظ برثاثته وعزلته، وجدتها المتلائمة مع حكمة الفقر والعيش على حافة الحياة - وبين كفة ما يجيء من متغيرات، كبناء الفنادق والمنتجعات السياحية، وقدوم الهواة من متسلقي الجبال ومعداتهم، وبروز طموحات المتنفذين نحو تحوير القرية إلى مدينة ناصعة النظافة دون جدوى، ناهيك عن صراعات مرشحي الانتخابات البرلمانية الذين يتخذون من تأجيج النعرات الطائفية سلماً للوصول. وبين هاتين الكفتين يبرز وجهان يشكلان بيضة الميزان ونقطة ارتكازه، وهما "مايا" التي تختار في مطلع شبابها أن تعيش في هذه البقعة العالية النائية آتية من حيدر آباد، من أجل إعادة تأمل مسيرة حياتها على مهل، بعد هجران أسرة ووفاة زوج وفوضى وجدانية وفكرية. أما الشخصية الثانية، فهي "صاحب ديوان" الرجل العجوز، الذي كان متنفذاً ووجيهاً ذات حقبة، ثم مال إلى التقشف والعزلة وتأمل الطبيعة والتأليف حول التاريخ الطبيعي للمنطقة. حين يلتقي "صاحب ديوان" بـ"مايا"، التي تستأجر أحد ملاحق بيته، تتكون بينهما صداقة نادرة عززها اشتغال "مايا" في نسخ وطباعة مخطوطة "صاحب ديوان"، ومشاركتها إياه قراءة الصحف وأحاديث الأمسيات. وشكّلا معاً تلك العين الشاخصة المتأملة لما يحدث في رانيكهت، مع محاولات دؤوبة منهما لسد الثغرات ورأب الصدوع. ورغم ذلك المشهد العام لبلدة تكاد تفقد براءتها، إلا أن الكاتبة نجحت في أن تأخذ القارئ إلى مستويات أخرى من الجمال والمتعة. فأنت حين تقرأ "الأرض المطوية" ستجد نفسك إزاء جلسة من جلسات التأمل تعيش خلالها مجاوراً لسفح من سفوح الهيمالايا، تكاد تشم رائحة الضباب، وتدخل في طقس الغروب وأصوات الطيور والنمور وعبق الأعشاب الليلية. ثم وأنت في خضم هذه المشاهد واللغة المتأنية المتئدة التي تشكلها، لا تجد نفسك منشغلاً بجريان الأحداث واللهاث خلف نهاياتها، فالأحداث ما عادت تهمك، ولتأتِ كيفما تأتي ما دمتَ مستسلماً لتلك السكينة والعيش في اللحظة، منسكباً مع اعتياديتها وآنيتها دون ترقّب أو سباق مع الزمن. وهكذا، تضعنا الكاتبة في هذا الطقس التأملي المتئد من خلال اللغة، وكأنها تأمل بهذه النزعة أن تعيد الكون إلى سكونيته، والهيمالايا إلى مهابتها الغاربة، والعلاقات الإنسانية إلى ينبوع البساطة والفطرة، رغم إحساسها الضمني بوطأة المتغيرات وجبروتها الذي لا يُردّ. تقول أنورادا روي في معرض حديثها عن أحوال الكتابة: "إن الخيال الجامح والمهارات اللغوية والإرادة في خلق الوهم الذاتي هي في كل الأحوال العناصر الأساسية الثلاثة التي لابد أن يمتلكها الروائي المعاصر، كي يبدأ سباق المسافات الطويلة رفقة غيره من الروائيين". وتضيف: "إن الروائي الناجح بحاجة إلى الصبر والتأني والمثابرة، والأهم من هذا كله الإحساس بالسعادة في العزلة التي يفرضها على نفسه، من أجل مواصلة إبداعه الروائي".