انتهينا في المقال السابق إلى أن بقاء البيئة السياسية- الاجتماعية- الاقتصادية الحاضنة لـ "داعش"، كما هي الآن من دون أي إصلاح سياسي جذري يوسّع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع السياسات واتخاذ القرارات، ومن دون تغيير مدني ديمقراطي يعلي من شأن القيم المدنية كالحريات العامة والشخصية، والمواطنة الدستورية المتساوية، فضلاً عن وجود سياسات اقتصادية رشيدة، وعدالة اجتماعية، فهذا معناه أن الأرض مازالت خصبة لتكاثر القوى والميليشيات المتطرفة، وأننا سنرى "دواعش" أخرى، من هذه الطائفة أو تلك، تحمل أسماء وشعارات وأعلاماً جديدة.والآن يتبادر إلى الذهن السؤال حول بديل "داعش" في مدن العراق كالموصل بعد تحريرها؟ هل هو دولة مدنيّة ديمقراطية تتسع لجميع المواطنين بصرف النظر عن هوياتهم الثانوية، وتسمح بالصراع الاجتماعي الطبيعي ضمن قنوات سياسية مدنية متوافق عليها، أم أن البديل، الذي تتضح للعيان بعض ملامحه هذه الأيام، هو قوى وميليشيات طائفية ترفع شعارات دينية تدغدغ عواطف الناس البسطاء من أجل الوصول إلى السلطة، وهي جماعات ما زالت تحمل معها، مثل بقية جماعات الإسلام السياسي، إرث ثارات دموية قديمة تعود إلى النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، وذلك نتيجة خلافات سياسية سببها الصراع على السلطة السياسية؟
والسؤال عن البديل ينبغي طرحه أيضاً أمام دولة عربية ترفع، هذه الأيام، شعار محاربة "داعش"، ومكافحة إرهاب جماعات دينية متطرفة ترعرعت في أحضانها، بل ومازالت بعض الأنظمة السياسية العربية تتحالف سياسياً مع جماعات الإسلام السياسي بشقيه السنّي والشيعي، وتسهل لها ظروف العمل الميداني، وهو الأمر الذي يعني أن البيئة العامة التي أنتجت التطرف، والغلو، والانغلاق، وخطاب الكراهية، والإرهاب الفكري ستبقي كما هي من دون تغيير مدني- ديمقراطي، وهي بيئة خصبة تُسهّل ولادة "دواعش" جديدة. وفي هذه الحالة، فإن رفع بعض الأنظمة السياسية لشعار مكافحة إرهاب الجماعات الدينية المتطرفة من دون طرح مشروع إصلاح سياسي- ديمقراطي هو مجرد استهلاك إعلامي الهدف منه هو محاولة الإبقاء على الأوضاع السياسية-الاقتصادية الحالية أطول فترة ممكنة.بناء على ما سبق، فإن الخيار، كما ذكرنا في مقالات سابقة، ليس بين واقع اجتماعي- اقتصادي حالي سيئ، وبديل أكثر سوءاً ورجعية تطرحه تيارات الإسلام السياسي بأشكالها المختلفة (سنيّة وشيعيّة)... الخيار أو البديل هو دول مدنيّة ديمقراطية عادلة اجتماعياً تتسع لجميع المواطنين بصرف النظر عن هوياتهم الثانوية، بحيث يدور الصراع السياسي فيها بشكل صحي حول برامج وطنية عامة تهم الجميع، وخطط تنموية تعالج مشاكل الحاضر المُعقّدة، وتوفر متطلبات مواجهة تحديات المستقبل.
مقالات
ماذا بعد «داعش»؟ (2)
12-07-2017