اصفعوهم على أفواهم!
أقولها بملء الفم: من ينتقد بالسوء الشعر العامي بحجة حبه وخوفه على اللغة العربية الفصحى، سواء كان بروفيسوراً باحثاً في اللغة متخصصاً في اللغة العربية، أو كان أحد مدّعي الثقافة – مع احترامي - هو أحد شخصين: إما أحد المتآمرين على اللغة العربية بحقد ماكر، وإما أنه أحد المحبين الحمقى للغة العربية الذين أبوا إلا أن يؤكدوا بعشقهم لها مقولة "ومن الحب ما قتل"! إذ كيف يبالغون بالتخويف من أثر العامية على اللغة العربية، في الوقت الذي يشاهدون بأم أعينهم ما تمارسه وزارات التعليم لدينا، وهي تهدّ ركناً قائماً من أركان اللغة العربية، ولا ينطقون ببنت شفة ولا حتى همساً؟! كيف بجرة قلم يمحى عمود من أعمدة حضارة هذه اللغة ولا يرفع أحد هؤلاء الدجالين صوته احتجاجاً وعويلاً كما يفعلون عند التعبير عن خوفهم من شر الشعر العامي؟! كيف تقوم وزارات التربية والتعليم لدينا بإلغاء مادة "الخط"، التي كانت تدرس في مناهجنا التعليمية لتختصر في صفحات لا تتجاوز أصابع اليد في كتاب قليل الدسم لمادة اللغة العربية ولا يفتح أحد من هؤلاء فمه؟! والساكت أمام هذه الجريمة إما شيطان أخرس، أو أنه قلّل من أثر هذا الإثم جهلاً وغباء، وليس أشر من محب يجمع بين الصفتين: الجهل والغباء. الخط في اللغة العربية ليس مجرد "حلية" و"أكسسوار" زائد يمكن الاستغناء عنه، شأنها في ذلك شأن اللغات الأخرى، الخط في اللغة العربية جزء أصيل من تاريخها وحضارتها، الخط العربي أنشأ مدرسة في مسيرة الفن التشكيلي العالمي عن طريق حرفه المتميز بخاصيتين لا توجدا إلا فيه: خفّة فراشة وثبات نخلة، مما أنتج أعمالاً تشكيلية ولوحات فنية تعرض في أكبر المتاحف الفنية وأشهر "الغاليريهات". واستخدم الخط العربي دون غيره من الخطوط الأخرى في فن الزخرفة، وزخرفت به أفخم القصور وأرقاها. الخط في اللغة العربية لم يكن ترفاً لمجرد "تحسين الخط"، إنه جزء من كيان حضارة عربية خالصة، تم التعامل معه كفضلات زائدة تسبب عسر الهضم لمعدة أطفالنا، وتم بترها جهاراً نهاراً، ولا أحد من مدّعي الهيام في اللغة العربية يشعل عود "صوت" في الظلام، أنا أحد الذين، ولحسن الحظ، عاشوا تلك الفترة التي كانت مادة الخط ضمن مناهجنا الدراسية في المرحلة الابتدائية، ومازلت أذكر تلك الكراسة الزرقاء المقررة لمنهجها، كراسة أنيقة تختلف عن كل كتب المواد الأخرى، ليست طولية مثلها، بل عرضية، وخطوط الحروف باللون الأسود المتصل، ولونها الآخر المنقط والمخصص لممارسة التمرن على كتابة الحروف، مازالت طازجة في الذاكرة، متعتنا ونحن أطفال حين نتمكن بالقلم الرصاص من تتبع الحروف المنقطة دون أن نخرج عنها، كنا نتعلّم الخط العربي باللعب والمتعة، إضافة إلى أننا كنا نتعلم مهارة الكتابة بين السطرين والتي كانت صفحات كراسة الخط تتميز بها، وأكسبت أبصارنا مهارة التناسق في الحروف، تلك المهارة التي قتلت بإلغاء مادة "الخط"، فبمجرد النظر إلى دفاتر أبنائي الصغار، ورؤية اختلاف حجم الحروف في السطر الواحد، أعرف مقدار ما تشوه في وجه اللغة الجميل وأحزن. فنون مثل "النسخ" و"الرقعة" و"الثلث" و"الكوفي" و"الفارسي" وغيرها أشبه بالطلاسم للأطفال في مدارسنا، ثم يأتي بعد ذلك من يندب زيفاً على اللغة العربية من الشعر العامي... إذا أتاكم أحد هؤلاء فاصفعوه على فمه!